الشرط الرابع: التلطف في الأداء قولاً وفعلاً، وليس ببعيد عما ذكرناه، كذلك إظهار المشاعر القلبية، وهذا إظهار للأسباب الظاهرة فعلاً وقولاً، واستمع إلى هذه الآية العظيمة التي تبين ذلك الأمر بياناً شافياً: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]، وهي آية عظيمة في بلاغتها، وفيها روعة لا يمكن أن يحيط كلام الناس بعظمتها.
(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ) فتلك في باب والأخرى في باب آخر، فإذا جاءتك السيئة أو وقعت الخطيئة أو حصلت المخالفة: (ادْفَع) أي: ادفعها وبددها، فهل يكون ذلك بالقوة؟ (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، ليس بالحسنى بل بالتي هي أحسن، أي: بغاية ما يمكن من الإحسان والتلطف الذي يحصل به الأثر بإذن الله عز وجل.
وكثيراً ما تسمع من الناس غير ذلك، فإن أسيئ إليك وأردت أن تكون واسع الصدر وأن ترد الإساءة بإحسان جاءك من يقول لك: لم ترض بالهوان؟ ولم تقبل بالذل؟ لو كنت مكانك لرددت الصاع صاعين، إن مثل هذه الأقوال نصائح على غير المنهاج القويم، وإن كان لكل مقام مقال كما سنذكر في بعض الأحوال.
انتبه إلى مثل هذا المعنى وهو الذي تكررت به الآيات في سياق الخطاب والحوار في النصح لعتاة وطغاة كبار، يقول الحق جل وعلا: {قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [سبأ:25 - 26].
انتبه لهذا المعنى: (قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا)، نحن أهل حق وأهل إسلام وإيمان قد نخاطب أهل كفر وطغيان وعصيان، نقول: (لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) كأننا نقول لهم: لا تنظروا في الابتداء إلى أننا أهل حق وأنتم أهل باطل، وإنما نقول لكم: تأملوا وتدبروا، ورحم الله مصعب بن عمير يوم دعا في المدينة فجاءه أسيد بن حضير مرسلاً من سعد بن معاذ يقول: اخرج عنا ولا تفرق بيننا! قال: أوغير ذلك؟ قال: ما عندك؟ قال: تجلس فتسمع، فإن أعجبك الذي قلنا وإلا أعطيناك الذي أردت، قال: لقد أنصفت.
كلام منطقي من عاقل، فسمع فشرح الله صدره، ونور قلبه، ونطق بالتوحيد لسانه، ورجع إلى سعد داعياً، فأسلم سعد وأسلم من بعد سعد قومه كلهم.
تأمل هذا المعنى فإنه عزيز وقليل من الناس من يحسنه: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} [لقمان:13]، وكلمة: (يا بني) هي أسلوب تلطف وتودد، وترغيب وتحفظ، وهو أب يمكن أن يكون آمراً وزاجراً ولا شيء غير ذلك، لكنه عندما أراد أن تكون موعظته بليغة ونافعة، ونصيحته مؤثرة وبالغة حينئذ قال: (يا بني).
وإذا رأينا أبا الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام يخاطب أباه وقد كان زعيم الكفر في وقته: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:42]، هذا المعنى (يا أبت) لم ينقص حقه، ولم ينس قدره، ولم يخف عليه أن مثل هذا المدخل قد يكون له أثره.
وقصة موسى وفرعون معروفة: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:43 - 44].
هذه معان كثيرة نحتاج إليها، ولذلك قد يكون من هذا إظهار شيء من التودد والتلطف أو التقدير والاحترام بقصد التأثير، فإن وقع ذلك فالحمد لله، وإن لم يقع فأنت قد أديت ما عليك، ومن أصر على معصيته فعاوده بين فينة وأخرى بأسلوب يناسبه، مرة فيه لين، ومرة قد يكون فيه شدة.
وهذا أمر مهم والنبي صلى الله عليه وسلم عندما خاطب ملوك الأرض من حوله ذكرهم بمناقبهم ومناصبهم؛ لأنهم بها يخاطبون وإن كانوا ليسوا معظمين في الميزان الإيماني والإسلامي، فكتب إلى الملوك فقال: (إلى هرقل عظيم الروم)، (إلى كسرى عظيم الفرس).
وفي قصة المسلمين في الحبشة ما يدل على ذلك، فلما خاطب جعفر بلسان المسلمين النجاشي قال: (أيها الملك) فأعطاه مقامه الذي هو فيه؛ حتى يكون ذلك التوقير داعياً إلى إصغائه، ولو أنه أهمله أو أنكره أو جفا عليه أو احتقره؛ لما كان له أن ينصت له أو أن يصغي إليه.