ووقفتنا التي نفرق فيها بين ما ينبغي وما لا ينبغي، وما ندعو إليه وما نحذر منه، وبين ما بين لنا الشارع محاسنه وبين ما حذرنا من مساوئه؛ هي تلك النصيحة عندما تنقلب إلى فضيحة، وعندما يجهر بها في المجالس، وتشاع في المجامع، وتعلن بالصوت المرتفع، وتجبه بالأسلوب السيئ البغيض المنفر، فليست حينئذ تؤدي أثرها، ولا تكون على صواب وسواء في نهجها.
فهذا الفضيل بن عياض يبين لنا الفرق فيقول: إن المؤمن يستر وينصح، وإن المنافق والفاجر يهتك ويعير.
فإن كنت مؤمناً مخلصاً في محبتك لإخوانك فاستر عليهم قصورهم وعيوبهم، ثم اخلص بالأسلوب الحسن والحكمة والموعظة الحسنة إلى قلوبهم وإلى آذانهم وإلى عقولهم، وانصحهم بالتي هي أحسن، فإن سترك عليهم مظنة قبولهم منك، وإن سترك عليهم عون لهم على الإقلاع عن الذنوب.
أما التجرؤ بهتك أستار الناس والتلفظ بمعايبهم على سبيل التنقص والتعيير فليس من النصيحة في شيء، وقد نقل ابن رجب عن السلف أنهم كانوا يقولون: من أمر أخاه على رءوس الملأ فقد عيره.
ونقل عن سلف الأمة أنهم كانوا يكرهون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على هذا الوجه، أي: على وجه الإعلان والمجابهة وإشهار العيوب، قال: ويحبون أن يكون الأمر سراً بين الآمر والمأمور، فإن هذا من علامات النصح، فإن الناصح ليس له غرض في إشاعة عيوب من ينصح له، وإنما غرضه إزالة المفسدة التي وقع فيها.
فإن كنت مخلصاً فما الفائدة في إعلان المعايب؟ وما الذي يرجى من إشهار الأخطاء؟ وإن كنت تريد التغيير ومنع الواقع في المنكر عن منكره فالطريق الشرعي أن تفضي بنقدك له مباشرة، وأن تسر له بالنصيحة بينك وبينه، فإن ذلك أدعى للقبول وحصول التأثير.
وبعض الناس بحجة النصيحة يقعون في الفضيحة، وبحجة إحقاق الحق يقعون في عين الباطل، فتجد بعضهم كأنما يذيع نشرة أخبار يقول عن هذا كذا وعن ذاك كذا، وهذا فعل كيت وكيت، وذاك قال كذا وكذا، وقد اطلعت من هذا على هذا وهذا! وما تجلس في مجلس إلا وتسمع منه من الكلمات والفحش ما هو محذور، وما هو خطر جليل عظيم.
إن الله جل وعلا يحذرنا بقوله جل وعلا: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26]، قال ابن عباس وغيره من سلف الأمة في تفسير هذه الآية: القول الخبيث والكلمات الخبيثة للخبيثين.
وقال ابن جرير مرجحاً هذا المعنى: لا يصدر القول القبيح إلا من القبيح، ولا يصدر القول الطيب إلا من الطيب.
والنبي صلى الله عليه وسلم -كما في حديث أبي برزة الذي رواه أبو داود والإمام أحمد وسنده صحيح- يحذرنا من هذا تحذيراً لو تأمله المسلم لما تجرأ على هتك أعراض إخوانه وفضحهم بحجج وهمية وبمناهج فيها من الخطأ ما فيها، يقول عليه الصلاة والسلام: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتتبع عورات المسلمين يتتبع الله عورته حتى يفضحه في بيته)، فقوله: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه) أي: لم يخلص الإيمان إلى التمكن من قلبه والتأثير في نفسه وظهور آثاره في فعله، قال: (لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من يتتبع عورات المسلمين يتتبع الله عورته حتى يفضحه في بيته) فهل بعد هذا البيان من بيان؟ وهل بعد هذا التحذير والوعيد من وعيد؟