وهذا رسولنا صلى الله عليه وسلم يجسد لنا كل صور البذل في أروع مراتبها وأرفع مقاماتها، ويبينها لنا في مقاله وفي حاله الذي نقل لنا من سيرته صلى الله عليه وسلم العطرة.
عندما نتحدث عن البذل فإن كثيراً من الناس يحصرونه ويقصرونه في أمر المال، وأؤجل الحديث عنه لما يشيع بين الناس من معرفة أوصافه وما يتعلق به؛ وأتحدث عن أنواع البذل الأخرى التي لا يفقهها كثير من الناس، والتي يقصر فيها كثير من الناس؛ فهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يعلمنا أن نبذل من سماحة نفوسنا، فهاهو عليه الصلاة والسلام يبين لك أن تبسمك في وجه أخيك صدقة، وأن إدخال السرور على المؤمن من أعظم أبواب الخير والبذل والإحسان، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام صدراً رحباً وسع جميع الصحابة، ووسع الجهلاء والغلظاء من الأعراب، وما ضاق عنهم حلمه عليه الصلاة والسلام، بل وسعتهم أخلاقه العظيمة وشمائله الكريمة، وبذل لهم من عظيم صبره، وبذل لهم من سماحة نفسه عليه الصلاة والسلام.
فاستأسر القلوب، وسبى المشاعر والنفوس، وخطف الألباب والأبصار؛ فكان قدوة عظيمة لكل من جاء إليه ولكل من كان معه ولكل من التف حوله، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].
وكان عليه الصلاة والسلام يبذل من وقته فهذا سائل يسأل، وذاك مستفتٍ يستفتي، وذاك طالب حاجة يطلب السعي معه في حاجته، وتلك امرأة عجوز لا يؤبه لها تأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقوده إلى أي سكك المدينة شاءت؛ حتى يقضي عليه الصلاة والسلام لها حاجتها، فلا يستكبر من ذلك ولا يستنكف، بل يبذل عليه الصلاة والسلام لكل صاحب حاجة ما يليق بحاجته.