نبدأ هذه الجملة بالتذكير بحديث جرير بن عبد الله البجلي في صحيح مسلم والذي أخبر فيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مع بعض أصحابه في المسجد، فدخل قوم من مضر عليهم أثر الفاقة مجتابي النمار -أي: ملابسهم مقطعة- فتمعر وجه النبي عليه الصلاة والسلام) -أي: تغير حزناً لما رأى من حالهم، وما تغير وجهه إلى بعد أن تغير قلبه ونفسه من فرط رقته ورحمته وشدة تأثره بأحوال الناس وضعفهم وفقرهم وسوء حالهم.
ثم ماذا؟ هل تمعر وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله وسكت؟! انتظر النبي عليه الصلاة والسلام حتى دخل وقت الصلاة -وكانت صلاة الظهر- ثم صلى بالناس ثم قام فيهم خطيباً وبدأ بالآيات المعروفة في التقوى والأمر بها ثم قال: (تصدق رجل من درهمه، تصدق رجل من ديناره، تصدق رجل من صاع بره، تصدق رجل من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة)، دعا الناس كلهم أن يتبرعوا وأن ينفقوا، هذه حملة تبرع نبوية منذ ذلك العهد.
(فأتى رجل من الأنصار بصرة من ذهب كادت كفه أن تعجز عنها بل قد عجزت، وتقدم فوضعها بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام فتسابق الناس -يعني: تشجعوا- كلاً يخرج ما عنده حتى اجتمع كومان من ثياب وطعام، فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم كأنه مذهبة من شدة فرحه) لا بهذا المال؛ لأنه كان من الممكن أن يقول: يا عثمان! أخرج كذا وكذا، أو يا عبد الرحمن بن عوف! أو غيرهما من كبار التجار، ونحن دائماً إذا ذكرنا التبرعات ذكرنا كبار التجار، سبحان الله! ننسى حديث النبي صلى الله عليه وسلم (سبق درهم ديناراً)، القليل من القليل كثير، عندما يكون رأس مالي ألفاً فأخرج خمسمائة، أكون قد أخرجت نصف ما لدي، أليس كذلك؟! والذي يخرج خمسمائة وعنده خمسمائة مليون لم يخرج إلا شيئاً لا يذكر، فالمسألة ليست بالكثرة وإنما بهذا التحرك الذي يترجم التكافل والتعاون الذي تزول به الحاجة ويندفع به الأذى، كما حصل في هذه الحادثة.
ثم أعطى النبي عليه الصلاة والسلام أولئك المحتاجين من ذوي الفاقة، وقال في هذه الحادثة: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى قيام الساعة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً).
فأنا أريد أن أعمل حملة للتبرع وحملة خيرية في المكان الذي أختاره، قد يكون في بيتي، قد يكون في مقر عملي، أو مع زملاء دراستي، أو مع أهل حيي، وهذا سنكرره دائماً، ما الذي نقوم به؟ اختر الموضوع أو القضية التي تريد ندب الناس للتفاعل معها والإنفاق في سبيلها، لنقول مثلاً: قضية إسلامية كقضية إخواننا في فلسطين، أو حاجة من الحاجات التي تكون في مجتمعنا وفي واقعنا، تحدث أولاً عن هذه القضية، وضح معنى وأهمية هذه القضية، اذكر الحاجة الملحة الشديدة للإعانة والإنفاق في هذا الباب، اذكر أمثلة للسبق والتسابق في هذا الميدان، اذكر أمثلة للأثر الإيجابي الذي يدخل إلى نفوس وقلوب من يعانون وينفق لهم هذا المال، ثم هيئ النفوس كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام.
النبي عليه الصلاة والسلام انتظر الصلاة حتى يجتمع أكبر عدد ممكن من الناس، وحتى يكون الناس قد صلوا وركعوا وسجدوا وذكروا ودعوا وابتهلوا فيكونون في مستوى إيماني مرتفع بحيث يمكن أن يجودوا وينفقوا في سبيل الله عز وجل، وانتظر الصلاة ليذكر المسلمين بأنهم أمة واحدة، كأنه يقول: الآن قمتم إلى الصلاة غنيكم وفقيركم، قويكم وضعيفكم في صف واحد، إذاً أنتم إخوة في الله، إذاً أنتم كتلة واحدة وأمة واحدة، لماذا تكونون أمة في الصلاة ولا تكونون أمة عند الحاجات وعند الملمات، وعند سد الثغرات، وعند كل ما يمكن أن تحتاج إليه الأمة في أي باب من الأبواب؟! ولذلك فإن التأثير والتذكير مهم جداً، ثم بعد ذلك ربما لا نكون مهيئين لأن نبذل أو ننفق فلنفكر ولندبر كيف يمكن أن نترجم هذا الذي سمعناه، والأمور التي علمناها، والأحوال التي عرفناها، كم من المرات نسمع؟! كم من الخطب نسمع؟! كم من الأحاديث نسمع عن أحوال وأمور في بيئتنا ومجتمعنا أو في بلاد المسلمين؟! ولا نفكر كيف يمكن أن نعمل أو نترجم ذلك إلى حملة حقيقية توصل الخير وتسد شيئاً من الرمق أو تدفع باباً من الأذى، أو تثبت أحداً من المسلمين أو نحو ذلك؟! وفي آخر الأمر سوف ينتج عن هذا ضرب من المنافسة والمساهمة التي ذكرناها في سباق الريح، وهذا أمر فطري طبعي.
ولاحظوا هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس جميعاً ولم يدع الأغنياء فقط، حتى قال: (ولو بشق تمرة)، يعني: لا أريد أن يتخلف أحد منكم عن أن يتقدم للإسهام ولو بأقل القليل، إذاً القليل من الكثير كثير أو لا؟ نحن لو قلنا: نريد من كل واحد ريالاً كل الناس يقول: يا أخي! ماذا سيصنع الريال؟ لكن لو أخذنا هذا الريال من ألف مليون مسلم كم سنجمع؟ ألف مليون ريال.
لا نتصور نحن القليل من الكثير أو القليل مع الدوام، وهذه قضية سيأتي ذكرها، وهي مشروع مهم جداً لا بد من أن يحرص الجميع على تنفيذه وتطبيقه.