يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال سبعاً: هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة والساعة أدهى وأمر)، رواه أبو هريرة وهو عند الترمذي في سننه بسند حسن.
بادروا فإن الأمور أعظم من أن تؤجل، وإن الأجل أعظم من أن يؤخر.
وعن سعد بن أبي وقاص أنه عليه الصلاة والسلام قال: (التؤدة في كل أمر إلا عمل الآخرة)، رواه أبو داود في سننه، والحاكم في مستدركه، وصححه ووافقه الذهبي.
فيمكن أن تكون متأنياً مؤجلاً مؤخراً، إلا إذا كان العمل عمل آخرة.
وتأمل في القدوة العظمى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، كيف كان السابق المبادر إلى كل خير، قال أنس رضي الله عنه في وصفه للنبي عليه الصلاة والسلام: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس، وأحسن الناس، وأجود الناس، استيقظ أهل المدينة على صوت صارخ، فسبق إليه، ورجع وهو يقول: لن تراعوا لن تراعوا!).
وتأمل قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه في وصفه عليه الصلاة والسلام: (كنا إذا حمي الوطيس واحمرت الحدق -أي: في شدة القتال وضراوته- نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم) فيكون في مقدمة القوم، وأول الركب؛ لأنه المسارع المسابق، ولأنه المبادر إلى الطاعات، لم يضن بنفسه، ولم يمل مع هواها، وكان كذلك في حياته كلها عليه الصلاة والسلام، حتى سارع بأمله وطموحه فقال: (والله لقد وددت ألا أقعد خلف سرية تقاتل في سبيل الله)، ثم سارع بفعله كما رأينا في هذه السيرة العطرة من بعض هذه الومضات العظيمة.
(وصلى صلى الله عليه وسلم مرةً، فتجوز في صلاته، ثم مشى مسرعاً، ودخل إلى بعض بيوته، وغاب قليلاً وخرج، فرأى في عيون أصحابه السؤال والتعجب، فبادر قائلاً: ذكرت شيئاً من تبر -أي: ذهب- فخشيت أن يحبسني، ففرقته في سبيل الله).
تلك هي المبادرة؛ فإن الوقت يمضي، وإن الأجل يقطع، وقد قال صلى الله عليه وسلم في مثل هذا المعنى -كما روى ابن ماجة في سننه-: (حجوا قبل ألا تحجوا، فإنه يمرض المريض، وتعطب الدابة)، فهذا في الحث على المبادرة في الحج، فإنه قد يمرض الإنسان، وقد تعطب دابته، وقد يفوته هذا الأمر كما يفوته غيره من الأمور إن هو أخر، فلا يدري كيف سيكون حاله؟ وفي الحديث: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وحياتك قبل موتك، وصحتك قبل مرضك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك).
كل ذلك قاله صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك امتثله وحث عليه أصحابه، فالاختبار لا يمكن النجاح فيه بالتفوق إلا بمثل هذه المبادرة، وبمثل هذا الذي نصنعه في هذا الموسم من تفريغ الأوقات، وقطع الشواغل، وتركيز الاهتمامات، وإعادة ترتيب الأولويات، وجعل الأمور في نصابها، فقد دخلت هموم الدنيا وشواغلها، ودخلت الملهيات والمغريات وصوارفها التي جعلت القلوب معلقة بغير تلك المسارعة إلى الطاعات.
وتأمل هذه الكلمات التي تدلنا على معنى هذه المسارعة، وكيف تكون كما شبهنا ذلك وسنعيده بإيضاح أكثر في شأن الاختبارات.
قال السعدي رحمه الله: والأمر بالاستباق إلى الخيرات قدر زائد على الأمر بفعل الخيرات -إذ إنه ليس مجرد فعل، بل هو أكثر من ذلك- فإن الاستباق إلى الخيرات يتضمن فعلها وتكميلها، وإيقاعها على أكمل الأحوال، والمبادرة إليها، ومن سبق في الدنيا إلى الخيرات فهو السابق في الآخرة إلى الجنات! ولما كان أقوى ما يحث النفوس على المسارعة إلى الخير وينشطها ما رتب الله عليها من الثواب، قال جل وعلا: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} [البقرة:148]، ويستدل بهذه الآية الشريفة على الإتيان بكل فضيلة يطلب فيها العمل على أفضل وجه، كالصلاة في أول وقتها، والمبادرة إلى إبراء الذمة في الصيام والحج والعمرة، وإخراج الزكاة، والإتيان بسنن العبادات، وغير ذلك مما فيه الكمال.
وكل هذا يدلنا على أننا إذا نظرنا إلى أحوالنا في مثل هذا الأمر وجدنا أنا مقصرون فيها.
وقال أبو حيان في تفسيره: المسارعة في الخيرات تكون من شدة وفرط الرغبة فيها.
أي: عن رغبة في الأمر المبادر إليه والقيام به.