هذا مجال آخر أيضاً هو مجال البذل والإنفاق، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث النساء ويقول: (تصدقن يا معشر النساء؛ فإني رأيتكن أكثر أهل النار)، وكان بلال رضي الله عنه يطوف بالرداء فتلقي المرأة بقرطها وحليها تتصدق به في سبيل الله عز وجل، والمثل في ذلك زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها، قال النبي صلى الله عليه وسلم مرة لأزواجه: (أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً) فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم وانتقل إلى الرفيق الأعلى قالت عائشة: فجعلنا نمد أيدينا ونقيسها من هي أطولنا يداً حتى نعرف من ستكون أولنا لحوقاً -أي: موتاً- بعده.
قالت: ما لبثت زينب أن لحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالت عائشة: فعرفنا أن طول يدها كثرة صدقتها؛ لأنها كانت امرأة صناعاً -تعني: عندها حرفة يدوية تصنع- قالت: فكانت تبيع فتتصدق في سبيل الله عز وجل.
وقالت: عائشة في زينب قولاً جميلاً عظيماً مؤثراً في هذا الجانب قالت: (لقد ذهبت حميدةً متعبدةً، ففزع الأرامل واليتامى والمساكين من بعدها، كانت تتفقدهم وتتصدق عليهم وتحنو عليهم رضي الله عنها وأرضاها).
وعائشة رضي الله عنها مثل يضرب في هذا، وهي التي تصف زينب بهذه الصفة، وهي التي جاءها عطاء مرة فقسمته كله ولم يبق عندها شيء وكانت صائمة، فلما جاء وقت إفطارها قالت لها مولاتها: يا أم المؤمنين! لو أبقيت لنا شيئاً.
قالت: (لو كنت ذكرتني لأبقيت شيئاً نأكله) تعلمت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي إحدى المرات -كما في الحديث- كانت عندها يوماً شاة فأنفق منها النبي صلى الله عليه وسلم حتى ما بقي إلا كتفها، قالت: يا رسول الله! ما بقي إلا كتفها.
قال: (ذهب كتفها وبقي كلها) وعائشة رضي الله عنها تعلم النساء أيضاً، فقد ورد في كتاب (الأموال) لـ أبي عبيد وغيره أن سائلاً جاء إلى عائشة رضي الله عنها ومعها بعض النسوة، فأعطته حبة عنب، فتعجب النسوة من هذا الصنيع، فقالت: كأنكن تعجبن من هذا والله إن فيها لمثاقيل ذر كثيرة.
تقصد قول الله عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:7]).
أي أن هذه الحبة من العنب فيها كثير من مثاقيل الذر.
والأجر عند الله سبحانه وتعالى عظيم، فهذه أيضاً أمثلة في هذا الجانب وهي من الأمثلة التي تحتذى وتقتدى.