نمضي مع الجولة الثالثة: كيف كانت علاقته وحسن تعامله ولين جانبه مع أصدقائه ولطافته في المعاملة! فإن بعض الناس يظن أن العلم والوقار يقتضي التجهم وعبوس الوجه وتقطيب الجبين أو نحو ذلك وما ثمة شيء، بل ينبغي أن يكون لكل مقام مقال ولكل موضع حال؛ فهذا الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام وهو من أئمة أهل العلم ومن أئمة الإسلام يقول: زرت أحمد بن حنبل فأجلسني في صدر داره وجلس دوني، قال: فقلت: يا أبا عبد الله أليس يقال: صاحب البيت أحق بصدر بيته؟ كما قد يحتج بعض الناس دائماً ببعض النصوص في كل موضع، ولا يعرف الحال الذي قد لا تكون معارضة للنص.
فقال الإمام أحمد مباشرة: نعم، يقعد ويقعد فيه من يريد؛ إكراماً له وإجلالاً واستضافة، قال: فقلت في نفسي: خذ إليك يا أبا عبيدة فائدة.
إذاً: كان الواحد من السلف يأتي للزيارة لا لمجرد المتعة والفكاهة والكلام والمزاح، وإنما كان يأتي لغرض المذاكرة والانتفاع، فقال في نفسه: خذ إليك فائدة.
قال: ثم قلت: يا أبا عبد الله! لو كنت آتيك على نحو ما تستحق لأتيتك كل يوم.
أي: لو أنني أزورك على قدر مرتبتك وحقك لكان واجباً علي أن أزورك كل يوم، كأنه يعتذر من قلة زيارته على عظيم قدره.
فقال له أيضاً على البديهة: لا تقل هذا، إن لي إخواناً لا ألقاهم إلا في كل سنة مرة، وأنا أوثق بمودتهم ممن ألقى كل يوم.
أي المهم أن تعرف صدق المحبة وصدق التعامل وحسنه، وليس الغرض هو كثرة الزيارة ودوامها؛ فإن ذلك ليس بالضرورة.
فقال: أبو عبيد: فقلت في نفسي: خذ أخرى يا أبا عبيد، هذه الثانية، قال: فلما أردت القيام قام معي، فقلت: لا تفعل يا أبا عبد الله.
كما يفعل بعض الناس الآن عندما يودع ضيفه يقول: في أمان الله، كأنه يطرده من بيته.
قال: فقام معي، فقلت: لا تفعل يا أبا عبد الله، فقال الإمام أحمد: قال الشعبي: من تمام زيارة الزائر أن تمشي معه إلى باب الدار وتأخذ بركابه؛ قال: قلت: يا أبا عبيد هذه ثالثة.
فاستفاد أبو عبيد هذه الثلاث من الإمام أحمد؛ بسبب حسن التعامل مع الزائر والتودد له وهذا من أسباب توطيد عرى المحبة والمودة بين القلوب.