ولما وصلوا إلى المدينة، وكان بعض أهل المدينة غير مصدق بما سمعوا من قتل صناديد قريش، وبما سمعوا من العدد الكبير الذي لقي المسلمين، فلما جاء الأسارى وشاهدوا بأعينهم اطمأنوا، ووزع النبي صلى الله عليه وسلم الأسارى على أهل المدينة.
لنرجع إلى أهل مكة عقب الغزوة حينما أتاهم الخبر، فإنهم أقاموا المحازن وأكثروا البكاء، وجمعوا مال تلك العير، وقالوا: ولا تبكوا قتلاكم؛ حتى لا يتشفى فيكم محمد والمسلمون، ومنعوا الناس من البكاء والصياح، ولكن عواطف الناس لا يملكها أحد، ومنعوا قسمة المال، وقالوا: أرصدوه لقتال محمد، ولأخذ الثأر، وكانت غزوة أحد بعدها في السنة الثالثة مباشرة، هذا شأن أهل مكة هناك.
أما الأسارى في المدينة فقد جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزعهم، وبعد ذلك جمع أصحابه، وسألهم: ماذا تقولون في شأن الأسارى؛ فسأل أبا بكر رضي الله تعالى عنه، فقال: يا رسول الله! هؤلاء القوم والعشير، فاقبل منهم الفداء، ونحن بحاجة إلى المال نستفيد به، ولعل الله أن ينعم عليهم بالإسلام، فيكونوا لنا عضداً، قال: ما تقول يا ابن الخطاب؟ قال: أرى ما لا يرى أبو بكر، أرى أن تعطي عمر فلاناً -لقريب له- أضرب عنقه، وتعطي عقيلاً لـ علي يضرب عنقه، وتعطي فلاناً لـ حمزة، وتعطي كل قريب لقريبه يضرب عنقه، حتى يعلم المشركون أن لا هوادة بيننا وبينهم.
وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله! انظر وادياً كثير الحطب، وأدخلهم فيه، وأجج عليهم الوادي ناراً، ثم تركهم صلى الله عليه وسلم ودخل؛ فقال قوم: يأخذ بقول أبي بكر، وقال قوم بقول عمر، وآخرون: بقول عبد الله بن رواحة، ثم خرج عليهم، فقال: (إن الله يليّن قلوب أقوام فيه حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوباً حتى تكون أشد من الحجارة، مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم؛ قال: {مَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36] وإن مثلك يا أبا بكر مثل عيسى؛ قال: ((إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ)) [المائدة:118] الآية، ومثلك يا عمر كمثل نوح، قال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:26] ومثلك مثل موسى قال: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:88]) ثم أخبرهم بأنه يرى الفداء.
وبالله تعالى التوفيق، والله تعالى أعلم.