قال رحمه الله: وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف على يمين فقال: إن شاء الله، فلا حنث عليه)، رواه أحمد والأربعة وصححه ابن حبان.
الشرح هذا الحديث جار على أسلوب العربية؛ لأن القرآن -وهو أصل هذا الدين الكريم- عربي، فأسلوبه يتمشى مع الأساليب العربية، وكذلك السنة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أنا أفصح العرب والعجم بيد أني من قريش، واسترضعت في بني سعد بن بكر)، يعني: جمع أطراف الفصاحة في أفصح قبائل العرب.
كلمة (إن شاء الله) عند علماء اللغة دالة على الاستثناء، {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24]، لأنك لا تدري ما الذي سيحصل؟ والاستثناء عند علماء العربية له شروط: أولاً: أن يكون وقوع الاستثناء متصلاً بالكلام، كما لو قال شخص: والله لا أكلم فلاناً إن شاء الله.
وإذا كان الفصل بشيء لا يؤثر غالباً، كأن يأخذ نفساً، أو يبلع ريقه، أو كحة، أو عطاس وغيرها من الأمور التي لا تأثير لها، ولا تعتبر فاصلة بين حديث وحديث، فهذا الاستثناء يظل معتبراً.
لكن إن دخل حديث أجنبي عن موضوع المستثنى والمستثنى منه وفصل بين المستثنى والمستثنى منه؛ كقول أحدهم: والله! لا أكلم زيداً، أتدرون لماذا؟ لأنه فعل كذا وفعل كذا، وحاولت معه ووسّطت فلاناً، وكذا وكذا إن شاء الله، هل جاء هذا الاستثناء متصلاً بالمستثنى منه، أم أن بينهما فاصلاً أجنبياً عنه؟ فصل بينهما بأجنبي عنه، هذا واحد.
الثاني: أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه.
إذا قال: عليّ لزيد، مائة دينار إلا خمسة دنانير، فالمستثنى من جنس المستثنى منه.
ولو قال: عليَّ لزيد ألف دينار إلا إردباً من التمر، فالمستثنى ليس من جنس المستثنى منه، وجمهور علماء اللغة يقولون: هذا الاستثناء باطل ويلزم بالمائة كاملة؛ لأنه استثنى ما ليس من جنس الذي اعترض به، وبعض مُنصفي علماء العربية يقول: يصح ونقدر قيمة ما استثناه ونخصمه مما اعترف به، فلو قال: له عليّ مائة دينار إلا بعيراً، فالبعير ليس من الدنانير، فيقول هذا القائل من أهل اللغة: نقدر كم قيمة البعير؟ فمثلاً: قيمة البعير خمسة دنانير، فيكون استثنى خمسة دنانير من المائة، لكن جمهور علماء العربية يقولون: لا، لأن المستثنى من غير جنس المستثنى منه.
الشرط الثالث: ألاّ يكون المستثنى أكثر من الباقي من المستثنى منه، كما لو قال له: علي مائة إلا ستين، فاستثنى من المائة ستين وصار الباقي أربعين، وهذا لا يصح؛ لأن الاستثناء وضع لرفع الأقل تداركاً.
وعلى هذا: إذا تمت شروط الاستثناء كان صحيحاً واعتبر وعمل به، هذا من حيث الناحية اللغوية، والكتاب والسنة على هذا المبدأ، وإذا قال شخص: والله! لأعطين زيداً كذا أو لآخذن منه كذا إن شاء الله، فكلمة: (إن شاء الله) هنا أعطته مفتاح الباب، إن شاء بقي على ما حلف، وإن شاء فتح، وخرج من عهدة هذا اليمين؛ لأنه استثنى وعلقه على المشيئة، وهذا راجع لعلم الله وراجع لذات الله سبحانه ونحن ما عرفنا: شاء الله أو لم يشأ الله؟! لكن هل حنث في يمينه أو لم يحنث؟ فإذا شاء الله أن يفعل وقع الفعل بالذات، وعرفنا أن الله قد شاء الفعل، وإذا طالت المدة ولم يفعل، عرفنا أن الله لم يشأ له أن يفعل.
فعلى كل لا يهمنا في هذا الحديث أن الاستثناء في اليمين إذا استوفى شروطه نفعه، إلا أن بعض العلماء يقول: لا يصح الاستثناء في اليمين إلا بالمشيئة، لكن في بقية الحقوق لا مانع، فإن قال: له عليّ كذا إلا كذا، فهذا معتبر في المعاملات وفي الحقوق، لكن في الأيمان التعبدية والمنعقدة بين العبد وبين ربه تختص بالمشيئة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.