أما الوجود الفعلي في الكتاب والسنة فمثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2] وقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] أي: تعرفون نسبه ومولده وصدقه وأمانته وفي قراءة: ((مِنْ أنفَسكمْ)) من النفاسة ورفعة الشأن وعلو القدر.
افتتاحية رسالته وهو النبي بالأمر بالقراءة وبالعلم، والتنويه بشأن هذه الأمية في حقه صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:2 - 4].
ومن ذلك فنجد في هذا إشارة إلى صفة من أعظم الصفات الدالة على عظيم قدره، إذ أصبحت الأمية التي هي عيب في حق صاحبها تعود مدحاً في حقه صلى الله عليه وسلم وكمالاً، فيعلم الأمة الكتاب والحكمة، ولم يقتصر تعليمه على معاصريه بل يمتد إلى آخرين لم يلحقوا بهم من الأجيال المتعاقبة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ وذلك لاستمرارية معجزته الخالدة القرآن الكريم الذي تعهد الله تعالى بحفظها، بخلاف معجزات الأنبياء قبله فهي مؤقتة بأزمانهم مختصة بأشخاصهم، والقرآن كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44].
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم وضع المنهج القويم للتطبيق العملي الدائم بقوله: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً كتاب الله وسنتي)، فإنزال القرآن عليه وحفظ الله تعالى إياه واستمرار العمل به أعظم ما يعلي قدره ويعظم شأنه.
ومن التنبيه على علو شأنه وعظيم قدره من كتاب الله افتتاحية سورة الفتح: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح:1 - 3]، وقد نزلت في صلح الحديبية، وفعلاً كان صلح الحديبية فتحاً، وقد سأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَفَتْح هو يا رسول الله؟! قال: نعم إنه لفتح)، ويكفي في كونه فتحاً مبيناً، أن تجلس قريش مع النبي صلى الله عليه وسلم -كما يقال- على مائدة المفاوضات، وتجتمع تواقيعهم على صحيفة الصلح التي انتزعت منهم الاعتراف الفعلي بالكيان الإسلامي، ويقف الجميع جنباً إلى جنب في العرف السياسي والعسكري، وقد دخل في الإسلام بهذا الفتح في مدة السنتين نحو عشرة آلاف، وهم أضعاف من دخل فيه من قبل، ثم جاء الفتح الأكبر فتح مكة الذي جاء بالحق وأزهق الباطل، وتهاوت الأصنام المعلقة بالكعبة بمجرد الإشارة إليها بقضيب في يده.
وكان صلوات ربي وسلامه عليه يقوم الليل حتى تتفطر قدماه شكراً لله وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وقد يقول قائل: وأي ذنب كان منه وهو المعصوم؟ فيقال: هو رفع لدرجاته وتعظيم لقدره.
وأما إتمام النعمة عليه فلقد أتم تمامها في الحج خاتمة أعماله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3] إلى آخره.
وقوله: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح:1]، قد يكون في صيغة الوعد، والوعد من الله حق.
وقد بيّن تعالى أنه صدق وعده معه: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا} [الأنعام:161]، وجعله هادياً مهدياً: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52].
{وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح:3].
{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] السورة، وفي سورة الضحى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3] رداً على الشامتين في فترة فتور الوحي، فقالوا: تركه ربه وأبغضه، فأكذبهم وأعظم له المواساة مع البشارة.
{وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى} [الضحى:4]، ولا حد لهذه الخيرية إلا ما يرضيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5].
وقد بيّن صلى الله عليه وسلم عظم هذا العطاء حيث إنه في اليوم الذي يقول فيه كل نبي: (نفسي نفسي)، أما هو فيبعثه الله المقام المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون حين يؤتيه الله الشفاعة العظمى على ما سيأتي.
وسورة {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ} [الشرح:1] وما جاء فيها من الآيات الكريمات إلى قوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4] قال القرطبي: قال مجاهد يعني: بالتأذين، وفيه يقول حسان: أغر عليه للنبوة خاتم من الله مشهود يلوح ويشهد وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وروى عن الضحاك عن ابن عباس قال: يقول له: لا ذُكرتُ إلا ذُكرتَ معي: في الأذان، والإقامة، والتشهد، ويوم الجمعة على المنابر، ويوم الفطر، ويوم عرفة ويوم الأضحى، وأيام التشريق، وعلى الصفا والمروة، وفي مشارق الأرض ومغاربها.
انتهى.
أقول: وعند دخول المسجد، والخروج منه، وقبل وبعد الدعاء.
وقيل: أعلينا ذكرك في الكتب المنزلة إلى آخر ما ذكره من المقام المحمود.
بل وفي قضية تظاهر نسائه عليه: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ * عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} [التحريم:4 - 5] إلخ، وهذه العناية به وحسن موالاته لا شك أنها من عظيم قدره عند الله وجبريل وصالح المؤمنين وعموم الملائكة المكرمين.