الحمد لله ذي الفضل العظيم، والخير الواسع العميم، أنعم على عباده بنعم لا تحصى، ودفع عنهم من النقم ما لا يعد ولا يستقصى، وتفضل عليهم بالعمل الصالح، وجازاهم عليه أفضل الجزاء.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك العلي الأعلى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي وصل بفضل ربه إلى أعلى مكانٍ يصل إليه الورى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن بهداهم اهتدى، وسلَّم تسليماًَ.
أما بعد:
أيها المؤمنون! اتقوا الله تعالى، وتعرفوا إلى ربكم في الرخاء يعرفكم في الشدة، تعرفوا إلى الله عز وجل بالقيام بطاعته رغبة في ثوابه، وابتعدوا عن معصيته خوفاً من عقابه؛ فإنه أليم شديد.
أيها المسلمون! أيها المؤمنون بالله حقاً! اعلموا أن رخاء العيش وطيب الحال من النعم التي تستوجب الشكر على العباد، وتستوجب القيام بطاعة المنعم الجواد جل وعلا.
أيها المؤمنون بالله! اعلموا أن الإنسان في حال الرخاء يستطيع أن يعمل ما لا يمكنه القيام به في حال الشدة، ويستطيع أن يعمل في سن الشباب ما لا يمكنه القيام به في حال الكبر والهرم، ويستطيع أن يعمل في زمن الأمن والطمأنينة ما لا يمكنه القيام به في حال الخوف، ويستطيع أن يعمل وهو صحيحٌ ما لا يمكنه القيام به وهو مريض.
نعم.
إذا امتحن الإنسان هذه الحياة، وفكر فيها جيداً؛ عرف حقاً أن العافية في البدن، والأمن والترف لا يدوم، فقد يعقبها شدة ومرض وخوف وجوع؛ لكن المؤمن بالله حقاً الذي قوى صلته بربه جل وعلا، وقام بحق الله تبارك وتعالى، وتعرف للحي القيوم في حال الرخاء، فإن الله تبارك وتعالى يعرفه في حال الشدة، وفي حال الضيق، فيلطف به ويعينه على الشدائد، وييسر أمره، قال جل وعلا: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ * وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق:2 - 4] هكذا يعد الله عباده المؤمنين، والله لا يخلف الميعاد.
فاتقوا الله عباد الله! وإليكم هذه القصة التي تبين عاقبة الأعمال الصالحة، وتبين أن من تعرف إلى الله في الرخاء عرفه في الشدائد وأنجاه:
يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم، حتى آواهم المبيت إلى غارٍ، فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل، فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال رجلٌ منهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، فنأى بي طلب الشجر يوماً، فلم أُرِح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما، وكرهت أن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما، حتى برق الفجر -الله أكبر! - والصبية يتضاغون عند قدمي، فاستيقظا، فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج منه.
وقال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عم كانت أحب الناس إلي -وفي رواية: كنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء- فأردتُها على نفسها، فامتنعتْ مني، حتى ألَمَّت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلتُ، حتى إذا قدرتُ عليها -وفي رواية: فلما قعدت بين رجليها- قالت: اتقِ الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها.
وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء، وأعطيتهم أجرهم غير رجلٍ واحد، ترك الذي له وذهب، فثمَّرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حينٍ فقال: يا عبد الله! أدِّ إليِّ أجري فقلت: كل ما ترى من الإبل والبقر والغنم والرقيق أجرك، فقال يا عبد الله! لا تستهزئ بي! فقلت: لا أستهزئ بك، فاستاقه فلم يترك منه شيئاً، اللهم إن كنت فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون} لا إله إلا الله! فخرجوا يمشون! متفق على صحة هذا الحديث.
أمة الإسلام! تلكم القصة التي أخبر بها أصدق الخلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
فالأول من أولئك الثلاثة: ضرب مثلاً عظيماً في البر بوالدَيه، بقي طوال الليل والإناء على يده، لم تطب نفسه أن يشرب منه، ولا أن يسقي أولاده وأهله، ولا أن ينغص على والدَيه نومهما حتى طلع الفجر.
وأما الثاني: فضرب مثلاً بالغاً في العفة الكاملة، حيث تمكن من حصول مراده من هذه المرأة التي هي أحب الناس إليه، ولكن لما ذكرته بالله، وقالت له: اتق الله، فتركها وقام ولم يعمل الفاحشة، ولم يأخذ شيئاً مما أعطاها.
وأما الثالث: فضرب مثلاً في غاية الأمانة والنصح؛ حيث نَمَّى للأجير أجره فبلغ ما بلغ، وسلَّمه إلى صاحبه، ولم يأخذ على عمله شيئاً، فكان من جزاء هذه الأعمال الصالحة التي تعرفوا بها إلى الله في حال الرخاء أن تعرف الله عليهم في حال الشدة.
نعم يا أمة الإسلام! هكذا كان جزاؤهم على هذه الأعمال الصالحة التي تعرفوا بها إلى الله في حال الرخاء، أن الله عرفهم في حال الشدة، فأنقذهم من الهلاك.
وهذه سنة الله في خلقه إلى يوم القيامة، أن من تعرف إلى الرب جل وعلا في حال الرخاء عرفه في حال الشدة، كما أوصى بذلك رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، حيث يقول: {تعرَّف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة}.
اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه، وجنبنا ما تبغضه وتأباه يا رب العالمين.
{وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الزمر:61 - 63].
اللهم بارك لنا في القرآن العظيم، وانفعنا بما صرَّفت فيه من الآيات والذكر الحكيم.
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.