الحمد لله رب العالمين، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، المبعوث رحمة للعالمين، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس! اتقوا الله تعالى وأطيعوه، وبادروا بالتوبة إلى الله ما دمتم ممهلين.
عباد الله! إن للتوبة النصوح شأناً عظيماً، فإن التائب يكون عنده إقبال على طاعة الله عز وجل، وهذا من علامة قبول التوبة، وكذلك التائب يكون من أحباب الله عز وجل، وإذا أحبه الله وضع الله له القبول في الأرض، فأحبه أهل السموات والأرض.
عباد الله! إن للتوبة النصوح شأناً عظيماً، قال الله تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:118].
عباد الله! من هم هؤلاء الثلاثة؟
يفسر لنا هذه الآيات أحد الثلاثة وهو كعب بن مالك رضي الله عنه فيقول: {لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك، غير أني قد تخلفت في غزوة بدر، ولم يعاتب أحداً تخلف عنه، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش، حتى جمع الله تعالى بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، حين توافقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أعظم في الناس منها.
وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله في غزوة تبوك، أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة، وغزاها صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً، واستقبل عدداً كبيراً، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجههم الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ، فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن ذلك أنه سيخفى عليه ما لم ينزل به وحي من الله.
وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، فأنا إليها أصعِّر -أي: أميل، فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وطفقت أغدو لكي أتجهز معه، فأرجع ولم أقض شيئاً، وأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك، حتى إذا أردت فما يزال يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئاً، ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئاً، ولم يزل يتمادى بي حتى أسرعوا وتطارق الغد، فهممت أن أرتحل فأدركهم فيا ليتني فعلت!
ثم لم يقدر ذلك لي فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أني لا أرى لي أسوة إلا رجلاً مغموصاً عليه بالنفاق، أو رجلاً ممن عذر الله تعالى من الضعفاء، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بـ تبوك: ما فعل كعب بن مالك؟
فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله! حبسه برداه والنظر في عطفيه، فقال له معاذ بن جبل رضي الله عنه: بئس ما قلت فيه، والله يا رسول الله! ما علمنا عليه إلا خيراً، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينما هو على ذلك رأى رجلاً مبيضاً يجول به السراب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كن أبا خيثمة، فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري.
قال كعب: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلاً من تبوك، حضرني همي فطفقت أتذكر الكذب وأقول: بم أخرج من سخطه غداً، وأستعين بذلك بكل ذي رأي من أهلي.
فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً زاح عني الباطل، حتى أردت أني لم أنج منه بشيء أبداً، فأجمعت صدقه، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادماً، وكان إذا قدم من سفر صلى الله عليه وسلم بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعاً وثمانين رجلاً، فقبل منهم علانيتهم، وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى، حتى جئت فلما سلمت تبسم تبسم المغضب، ثم قال: تعال، فجئت أمشي، حتى جلست بين يديه فقال لي: ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟
أي اشتريت، قال: قلت: يا رسول الله! إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر فلقد أعطيت جدلاً، ولكنني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك عليّ، وإن حدثتك حديث صدق تجد عليّ فيه، إني لأرجو فيه عقبى الله عز وجل، ما كان لي من عذر يا رسول الله، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك.
وسار رجال من بني سلمة فتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك أذنبت ذنباً قبل هذا، لقد عجزت في ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك، قال: فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسي.
ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي من أحد؟
قالوا: نعم، لقيه معك رجلان، قالا مثل ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك، قال: قلت: من هما؟
قالوا: مرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقدي، قال: فذكروا لي رجلين صالحين، قد شهدا بدراً فيهما أسوة، قال: فمضيت حينما ذكروهما لي، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا نحن الثلاثة من بين من تخلف عنه، قال: فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا، حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة.
فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه، وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ، وإذا التفت نحوه أعرض عني.
قال: حتى إذا طال ذلك عليّ من جفوة المسلمين، مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة؛ وهو ابن عمي وأحب الناس إليّ، فسلمت عليه، فوالله ما رد عليّ السلام، فقلت له: يا أبا قتادة! أنشدك الله! هل تعلمني أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟
فسكت، فعدت مناشدته فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي، فتوليت حتى تسورت الجدار، فبينما أنا أمشي في سوق المدينة، إذا نبطي من نبط أهل الشام، ممن قدم بالطعام يبيعه بـ المدينة، يقول: من يدل على كعب بن مالك، فطفق الناس يشيرون إليّ، حتى جاءني فدفع إليّ كتاباً من ملك غسان، وكنت كاتباً؛ أي: أقرأ، فقرأت فإذا فيه، أما بعد:
فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله في دار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك، فقلت حين قرأتها: وهذه أيضاً من البلاء، فتيممت بها التنور فسجرتها.
حتى مضت أربعون من الخمسين، واستلبث الوحي، إذا برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني رسول الله أرسل إلينا- يأتيني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها فلا تقربنها، وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر.
فجاءت امرأة هلال بن أمية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله! إن هلال بن أمية شيخ ضايع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟
قال: لا.
ولكن لا يقربنك.
فقالت: والله ما به من حركة إلى شيء، فوالله ما زال يبكي منذ أن كان من أمره ما كان إلى يومه.
فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه، فقلت: لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يدريني ماذا يقول رسول الله إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب؟}.