نعم يا عباد الله! إن شهر رمضان الذي اختاره الله عزَّ وجلَّ زمناً لنزول القرآن، وانطلاقة الإيمان، وفرق فيه يوم بدر بين الحق والباطل، وانتقلت فيه الأمة من أمة حيرى متلطخة بأدران الوثنية، إلى أمة مستنيرة مهتدية بنور الإيمان، تتلقى تعاليمها من السماء بواسطة الوحي إلى النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه، لا تدين إلا لله الواحد القهار وحده لا شريك له، وحينئذٍ ومنذ أن وُجد هذا الشهر، ونزل فيه القرآن في ليلة القدر المباركة التي هي خير من ألف شهر، وبركاته تتوالى على المسلمين، فلقد حصل فيه يوم الفرقان، يوم بد ر، يوم غزوة بدر الكبرى، التي فرق الله فيها بين الحق والباطل، حصل في رمضان فتح مكة، الذي دخل الناس بعده في دين الله أفواجاً، فكما كان موسماً وزمناً لتلكم الفضائل والعبادات والوقائع الإسلامية، فهو لا يزال ولن يزال موسم إفضال وإنعام، موسم تحولٍ من غفلة وصدود إلى انتباه وإقبال على الله، موسم تحولٍ من رذيلة إلى فضيلة، موسم تحولٍ من تمادٍ وانهماك في الماديات، إلى تحليق في سماء الروحيات.
وحري بهذه الأشياء أن توجد من نفس صاحبها نفساً روحية تحلق به في الدنيا مع عالم السماء الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون, وفي الآخرة مع الذين قال الله فيهم: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً} [النساء:69 - 70].
فاتقوا الله أيها المسلمون! واشكروه على ما منَّ به عليكم من إدراك هذا الشهر الكريم، والموسم العظيم، وتلقوه بنية صادقة، وعزم على الرشد، ورغب واستبشار، تلقوه بنفوس متهيئة لاستقباله بالتوبة الصادقة النصوح، والتطهير الشامل الكامل، بالعزم على فعل الفضائل، ومجانبة الرذائل.
اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت، الملك المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام.
أهل علينا شهر رمضان بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، ووفقنا للصيام والقيام يا رب العالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.