الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد: فيقول الله جل وعلا في كتابه الكريم: بسم الله الرحمن الرحيم: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:1-8] .
هذه السورة العظيمة فيها تحذير الله عز وجل عباده من التشاغل والالتهاء بالتكاثر في هذه الدنيا، وأنه ينبغي للمؤمن أن يعد العدة لآخرته، وألا يشتغل بالتكاثر في الأموال والأولاد عما خلق له من طاعة الله وعبادته، الكثير من الناس شغل بالتكاثر في الأموال والأولاد وحظ الدنيا العاجل، ونسي ما خلق له ولم يرفع به رأسه، فخسر الدنيا والآخرة، وندم غاية الندامة، والله جل وعلا يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وأنذرنا سبحانه يوم التلاق، يوم يبرز خلق الله عز وجل يوم القيامة، يوم تعرض عليهم أعمالهم خيرها وشرها، ولهذا قال عز وجل: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:1-3] ، وهو يوم القيامة سماها قارعة؛ لأنها تقرع أسماع الخلق كلهم، فأمرها عظيم، وشأنها خطير، ثم بينها فقال: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة:4-5] هذه الجبال الصلبة العظيمة تصبح كالعهن المنفوش، كالصوف المنفوش، قد ضعفت واندكت، وينسفها الله جل وعلا يوم القيامة، يقول سبحانه: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً} [طه:105-107] وقال: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً} [النبأ:20] هذه الجبال العظيمة تكون كالهباء وكالعهن المنفوش، وتصبح الأرض مستوية ليس فيها جبال ولا معالم لأحد، يحشر الناس عليها، فجدير بالعاقل أن ينتبه لهذا اليوم وأن يعد له عدته.
ثم قال بعدها: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [القارعة:6-7] أي: بالأعمال الصالحات {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:8-11] .
قال الله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:1-2] فلا ينبغي للعاقل أن يشتغل بالتكاثر عن هذا اليوم العظيم يوم القيامة، يوم هذا شأنه، تسير فيه الجبال وتكون كالعهن المنفوش، ويبرز فيه الناس كالفراش المبثوث، وكالجراد المنتشر، يموج بعضهم في بعض، كل واحد يقول: نفسي نفسي، فيكون الخلق فيه على خطر إلا من رحم الله من أهل الإيمان والتقوى.
ولهذا قال بعدها: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:2] أي: شغلتم حتى نزل الموت، لم تزالوا مشغولين بالتكاثر حتى هجم الأجل وزرتم القبور، فالمعنى: أعدوا العدة قبل نزول الأجل، وقبل أن تنقلوا للقبور، فإن بعد الموت لا عمل، العمل قبل الموت.
قال تعالى: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:2] يبين سبحانه أنها زيارة، وأن المقابر ليست مقراً لهم؛ المقابر مرحلة ينقلون منها إما إلى الجنة وإما إلى النار، فليست مقراً لهم دائماً، وإنما هي مرحلة من المراحل بين الحياة الدنيوية وبين الدار الأخروية، إما الجنة وإما النار، فأنت في المقبرة زائر لا مستقر، وسوف تنقل من هذا القبر ومن هذه الحفرة إلى ما أعد الله لك، إن كنت صالحاً فإلى الجنة، وإن كنت سوى ذلك فإلى النار، هذه النهاية، أما المقابر فليست نهاية.
وقد يقول بعض الناس: مقره الأخير، وهذا خطأ، ليس مقره الأخير، المقر الأخير إما الجنة وإما النار، هذا هو المقر الأخير، وأما المقبرة فهي مقر فيه رحلة، مقر مؤقت يرتحل منه صاحبه يوم البعث والنشور إما إلى جنة وإما إلى نار.
فجدير بالعاقل، وجدير بالرجل الحازم، وجدير بمن يخشى سوء العقاب وسوء الحساب أن يعد العدة، وألا ينشغل بالتكاثر ولا بغير التكاثر عن إعداده لنفسه، وأهبته لآخرته بطاعة الله ورسوله، والحذر مما نهى الله عنه ورسوله، ولهذا توعد الناس فقال سبحانه: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:3-4] هذا وعيد، وسوف تعلمون غبَّ ما عملتم، وسوف تندمون على ما فعلتم من هذا التكاثر وهذا الشغل بالتكاثر {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} [التكاثر:5] إذا صارت لكم حال أخرى لو علمتم لغيرتم ولانتبهتم، ولكن العبد في هذه الدنيا يصاب كثيراً بالغرور والغفلة عما أعد له وعما أمامه.
رزق الله الجميع التوفيق والهداية، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.