الجانب الآخر: يقول الله عز وجل: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9] ما معنى ذلك؟
معنى ذلك: أن الإنسان ينبغي أن يتخير في التذكير، ليس معنى: {إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9] إذا لم تنفع فلا تذكر، لا.
لأننا قلنا -قبل قليل- أن النفع ليس إليك، لكن تحر الأوقات، والظروف، والأماكن، والأحوال المناسبة التي تدخل فيها على الناس، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخول أصحابه بالموعظة، أي: يتلمس، سواء كان بتخول الظروف، أو باستغلال المناسبات، فقد تكون الموعظة حينما تزور مريضاً أكثر تأثيراً حينما يكون مصاباً، أو على القبر، أو على جنازة، أو مفاجأة حادث، أو أشياء أخرى، هذه أيضاً من التخول.
إذاً: هذا جانب من جوانب التذكير، وهو تخول الظروف، ومحاولة استغلال الظروف، فإن هذه يكون لها أثرها، ولهذا قد يكون عند تجدد النعم، أو عند انصراف النقم، أو حتى عند حلول المصائب، وعند أشياء كثيرة، يتخيرها الإنسان، ويحاول أن يستغل الظرف ليذكر، وحتى الاستغلال ينبغي أن يكون بطريقة لبقة، وبطريقة خفيفة الظل، وبطريقة لا تكون ثقيلة.
فإن كثيراً من مواعظ النبي صلى الله عليه وسلم كانت مجرد كلمات يقولها في المناسبات، لكنه في الأصل كان يتخير المناسبات، مثلاً: حينما كان مع مجموعة من أصحابه عليه الصلاة والسلام، فمروا على شاة، أو سخلة ميتة، أو تيس أسك -أي مقطوع الأذنين- قال: {أرأيتم هذا؟ قالوا: نعم.
قال: لماذا ألقاها أهلها أو أصحابها؟ قالوا: لأنها لا قيمة لها، قال: إن الدنيا أهون عند الله من هذه عند أهلها} فلأجل هذه المناسبة، قال هذه الكلمة عليه الصلاة والسلام، استغلالاً للموقف، ومحاولة للتذكير في وقت نفعه: {إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9].
والتذكير ليس محله المنبر فقط، أو المسجد، أو القاعات الكبرى، بل في أي مناسبة -كما قلنا- قد تزور مستشفى، أو تزور مرضى، أو في تشييع الجنازة، قد يكون حتى بمناسبة أفراح، قد يكون هناك إنسان جاءه شيء يفرحه فتستغل هذه المناسبة، والتذكير ليس بأن تأتي بمأساة في وقت الفرح، فإن هذا ليس من اللباقة، وليس من المفيد، بل في الفرح يكون فرحاً، ويكون استغلالاً للابتلاء بالخير، كما تستغل الابتلاء بالشر {إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9].