الحمد لله؛ بَوَّأ لخليله إبراهيم عليه السلام مكان البيت العتيق، وجمع لمن قصده خالصاً مخلصاً أسباب التوفيق، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، يسر السبيل لبيته المحرم؛ فجاءوا حُجاجاً وعُماراً من كل فجٍ عميقٍ.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً بها المخرج من كل ضيق، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، ذو المجد المؤثَّل والنسب العريق، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فتقوى الله سبيل النجاة، وطريق الفلاح، فاتقوه رحمكم الله لعلكم تفلحون.
أيها المسلمون: ها هم حجاج بيت الله الحرام تتوافد أفواجهم إلى هذه الأرض الطيبة المباركة في خطاً وئيدة متهيبة.
أيها الحاج الكريم! إن فيضاً دفاقاً من المشاعر والأحاسيس يملك عليك روحك وقلبك، وأنت تقلب بصرك الثاقب وبصيرتك الواعية، فإذا أنت تعيش خُطا محمد صلى الله عليه وسلم، وصحبِ محمد صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم وأرضاهم في صورةٍ حيةٍ نابضة، ومشاعر لله عابدة، وأشواق حارة في الإقبال على هذا البيت ورب هذا البيت.
أرضٌ مباركة ضمَّت أروع حوادث التاريخ، وأعظم ملاحم الإنسانية، أرض تروي أوديتها وجبالها ووهادها ورمالها تاريخاً عبقاً، طويلاً عريضاً، زاخراً بالبطولات، وألوان الجهاد والانتصارات، ومصارع الشهداء في سبيل الله، وإعلاء كلمة الحق.
أرضٌ تغيرت بسيرتها ومسيرتها معالم التاريخ، وقفزت بالإنسانية إلى أبعد الآفاق في المعالي والحياة الكريمة.
تَقْدُم -أيها الحاج- إلى هذه البلاد الطيبة الطاهرة، وهي تمد يديها إليك مرحبة، يتشرف أهلها بقدومك، ويتقربون إلى الله بخدمتك، ولاة الأمر فيها صادقون جادون في كل ما ييسر الحج، ويعين على أداء النسك.
حفظك الله!
كم وقف بساحاتها من الجموع؟! وكم سالت على ثراها من الدموع؟! وكم ذابت في عرصاتها فوارق الأجناس واللغات؟!
كم اعتز بها من ذليل لاذ بجناب الله! وبورك فيها من منكسر انطرح بين يدي مولاه؟!
كم تآلفت فوقها قلوب! وفُرِّجت على ثراها كروب! وحُطت فيها من أوزار وغُفرت ذنوب؟!
كم امتزجت فيها دموع المذنبين! وتعانقت أصوات المستغفرين! وتوحدت رغبات الراغبين؟!
كم تجردت فيها النيات! وسالت على جنباتها العبرات؟!
هذه هي الأرض الطيبة المباركة التي تَقْدُم إليها، فماذا أعددت؟! وكيف تهيأت؟!
أيها الحاج: دمت في رعاية الله وكنفه.
إن الحج عبادة عظيمة تتداخل فيها أنواع من العبادات لا يتيسر تداخلها في غيره: عبادة في المال، وعبادة في البدن، أعمال بالقلوب والألسنة والجوارح، جَمَعت أنواعاً من التعبد عملاً وقولاً ونيةً.