الحمد لله المنعم على خلقه، المتكفل لكل حي برزقه، أحمده سبحانه وأشكره على إنعامه الجزيل، وأستغفره وأستهديه وهو حسبنا ونعم الوكيل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من وحد ربه، وملأ باليقين والإخلاص قلبه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، المبعوث بالهدى، والمنقذ بإذن ربه من الردى، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار من المهاجرين والأنصار، ما تعاقب الليل والنهار، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: -
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، حيثما كنتم، واحذروا سخطه وغضبه، فهو سبحانه يعلم ما أخفيتم وما أعلنتم، وشؤم الذنوب عظيم، وعقبى المعاصي وخيم، فاتقوا الله ربكم واحذروها، وزكوا أنفسكم بالتوبة وطهروها.
أيها المسلمون: خص الله بني آدم بالخلافة في أرضه، لما خصهم به من الإدراك والمعرفة، وعلّم آدم الأسماء كلها، كما خصهم سبحانه بأدواتها ووسائلها من السمع والبصر والفؤاد: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78].
فالسمع وسيلة لمعرفة ما اكتسبه الآخرون، والبصر وسيلة للإضافة والتنمية والتطوير، أما الفؤاد فأداة التنقية من الأدران، والتخليص من الشوائب، واستخلاص العبر والنتائج، وهذه القوى الثلاث إذا ما تضافرت أنتجت بإذن الله المعارف الحقة، والعلوم النافعة: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الاسراء:36] ومن أجل هذه فإن الريادة في الأرض، والقيادة في الأمم، والصدارة في الشعوب، فازت بها فئات من الرجال، وطبقات من الناس استطاعت التفوق على غيرها، وإحراز قصب السبق في ميادين العلم والمعرفة، والأخلاق والآداب، والرجال في هذا الباب تصنع صنعاً، في صناعة أشق من صنع الآلآت وأخطر.
وإن في قول الحق سبحانه وتعالى في شأن نبيه وكليمه موسى عليه السلام: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] إشارة بديعة إلى ما تحتاجه تلك الصناعة من لطف إلهي، وعناية ربانية.
إن الرجال يصنعون صناعة أي صناعة! إن لكل أمة محترمة، ولكل شعب متحضر مبادئ وأعرافاً، وأحكاماً ونظماً ترتب علاقاته بين أفراده، وعلاقاته مع الآخرين، كل أمة محترمة تضع الخطط والمناهج لإيجاد مناخ سليم لإعداد الأجيال الناشئة، لتلقي تلك المبادئ والنظم، والإيمان بها، والغيرة عليها، والدفاع عنها.
أيها الإخوة: إن ذلك كله لا يكون إلا بالتربية، إن التربية -أيها الإخوة- هي التكامل، وهي التطور، وهي الاستمرار، وهي التغير.
التربية بإذن الله تحدد طريق السعادة كما تحدد طريق الشقاء، إنها صورة مجتمع في قيمه وأعرافه، ومثله وأخلاقه.
التربية هي الإعداد للحياة، وصقل العقول، وتهذيب السلوك، وتنمية الذوق الرفيع، والتدرج في مراقي الكمال الإنساني، إنها غرس ودرس، وغاية ورعاية، وعطاء ونماء، تربية دقيقة جادة تقوم على بناء المجتمع، وتصحيح الخاطئ من مفاهيمه، وإقامة المعوج في سلوكه.
تربية تجمع بين سلامة المعتقد وتأديب النفس وتهذيب العقل وبناء الجسم.
التربية هي التي تعمل على تماسك البناء الاجتماعي، وتحقق أمن الفرد، وتشبع حاجاته.
التربية وسيلة توحيد الأمة، وربط أفرادها بغايات عليا، ومصير مشترك، تحفظ الماضي المجيد، وترسم المستقبل المأمول، إنها العقيدة والنظام، والقيم التي تميز الأمة وتأكد استقلالها، بل هي سبيل تميزها وتفوقها.
إنها عملية تبدأ من قبل الولادة لتنشئ جيلاً هم محاضن التربية، وهم عناصر الثبات والتغير في الأمة، إيجاباً كان ذلك أو سلباً: {ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه} ومهمة التغير والثبات التي تراد للأجيال ليس لها أداة إلا التربية، بكل معانيها ووسائلها، وميادينها وساحاتها، في البيت وفي السوق، في المدرسة وفي المسجد، في المكتب والمتجر، في الكتاب والمذياع، في المقروء والمسموع والمشاهد.
ومقوماتها وأسسها منهج في الدين والعقيدة، وقدوة حسنة في الوالدين والأقربين والأصدقاء والمعلمين، علوم ومعارف متجددة تتوافق مع الطبيعة وتتماشى مع الحاجة.