الحمد لله، خلق خلقه أطواراً، وصرفهم كيف شاء سبحانه عزةً واقتداراً، أنزل عليهم كتبه، وأرسل إليهم رسله إعذاراً وإنذاراً، أحمد ربي وأستغفره إنه كان غفاراً، وأثني عليه بما هو أهله وأشكره، أسبغ علينا نعمه مدراراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من يرجو لله وقاراً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، نصب به الدليل، وأنار به السبيل، فتبدلت الظلمات أنواراً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، كانوا على الهدى أعلاماً، وعلى الحق مناراً، رضي الله عنهم وأرضاهم مهاجرين وأنصاراً، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما أعقب ليل نهاراً.
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عزَّ وجلَّ، فعليكم بتقوى الله فالزموها، وبادروا بالأعمال الصالحة والتزموها، الزمان يطوي مديد الأعمار، وكل مَنْ عليها راحل عن هذه الدار، التسويف لا يورث إلا حسرة وندماً، وطول العمر لا يُعْقِب إلا هرماً وسقماً، فواعجباً لنفوس طال على الدنيا إقبالها، وغلب عن الآخرة إعراضها وإدبارها! {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].
أيها المسلمون: لقد ولى الحجاج وجوههم شطر ديارهم، تقبل الله منا ومنهم، وجعل حجهم مبروراً، وسعيهم مشكوراً، وذنبهم مغفوراً، وبلغهم أهلهم وديارهم سالمين غانمين، وأعاذهم من سوء المنقلب في المال والأهل؛ ولكن حين ولوا وجوههم شطر بلادهم هل انقطع ارتباطهم بالبيت الحرام؟! إنهم لن يزالوا -مع إخوانهم المسلمين أجمعين- يولون وجوههم شطر المسجد الحرام: {وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144].
معاشر المسلمين: جعل الله البيت الحرام مثابةً للناس وأمناً، وجعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس، فارتباط المسلم ببيت الله وبالقبلة ليس مقصوراً على أشهر معلومات، ولا محصوراً في أيام معدودات، ولكنه ارتباط دائم، ووشائج لا تنقطع.
المسلم يبدأ يومه ويستفتح عمله -كما يختم نشاطه- بالتوجه إلى البيت الحرام، حين يقف بين يدي ربه قائماً، يؤدي الصلوات الخمس موزعة بانتظام في يومه وليلته، ينتظم مع إخوانه المسلمين حيثما كانت مواقعهم وأينما كانت ديارهم، ناهيكم عن النوافل والأدعية والأذكار التي يُشرع فيها استقبال البيت الحرام.
فهذه صورٌ وهيئات لا حصر لها، يتفاوت فيها المسلمون، ويتنافس فيها الصالحون.
بيت الله المحرم هو الوجهة الدائمة التي ترافق العبد المؤمن في كل حياته، ليس مرتبطاً بموسم، ولا محصوراً في فريضة، بل حتى حين يُوَسَّد في قبره دفيناً، فإنه يُوجَّه إلى البيت الحرام، فهي قبلتكم أحياءً وأمواتاً.
تأملوا حفظكم الله هذه الآيات الثلاث، قول الله عزَّ وجلَّ: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [البقرة:144]، وتأملوا قوله سبحانه: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:149]، وقوله سبحانه: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة:150].
يا ترى ما هو السر في التكرار لمعظم هذه الكلمات في هذه الآيات؟!
أُمِر النبي صلى الله عليه وسلم باستقبال البيت في هذه الآيات ثلاث مرات وأُمِر المسلمون مرتين، وتكرر قوله سبحانه: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [البقرة:149] ثلاث مرات، وتكرر تعميم الجهة ثلاث مرات، ما ذلك كله إلا لتأكيد عِظَم هذا التوجه والتنويه بشأن استقبال الكعبة المعظمة، والتحذير من تطرق التساهل في ذلك، تقريراً للحق في نفوس المسلمين، {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة:147].