الرحمة خُلُق يرعى الحقوق كلها

الحمد لله يعلم مكنونات الصدور ومخفيات الضمائر، أحمده سبحانه وأشكره على ما أولى من وافر النعم والفضل المتكاثر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الأول والآخر والباطن والظاهر، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله المطهر الطاهر كريم الأصل زكي المنافذ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أولي الفضائل والمفاخر، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ومن على درب الحق سائر.

أما بعد:

فيا عباد الله: إن الرحمة ليست حناناً لا عقل معه، وليست شفقة تتنكر للعدل والنظام.

كلا! بل إنها خُلُق يرعى الحقوق كلها، فقد تأخذ الرحمة صورة الحزم حين يُؤخذ الصغير إلى المدرسة من أجل التربية وطلب العلم، فيلزم بذلك إلزاماً، ويكف عن اللعب كفاً، ولو تُرِكوا وما أرادوا لم يُحسنوا صنعاً ولم يبنوا مجداً، والطبيب يُمزق اللحم ويَهشم العظم ويبتر العضو؛ وما فعل ذلك -أحسن الله إليه- إلا رحمة بالمريض وعلاجه، ناهيكم بإقامة الحدود والأخذ على أيدي السفهاء وأطرهم على الحق أطراً، فهي الرحمة في مآلاتها، والحياة في كمالاتها: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179].

والشفقة على المجرمين تظهر أشد أنواع القسوة على الجماعة، إنها تشجع الشواذ على الإجرام.

والشفقة على المجرمين سماها القرآن رأفة ولم يسمها رحمة، فقال في عقاب الزناة والزواني: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2]، إن القسوة التي استنكرها الإسلام جفاف في النفس لا ترتبط بتحقيق عدل، ولا بمسلك صعب، ولكنها شدة وانحراف في دائرة مجردة وهوىً مضل.

أيها المسلمون: وقد يستوقف المتأمل معنى الشدة على الكافرين في مقابل الرحمة بالمؤمنين في قول الله عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] والحق أن الإسلام قد جاء بالرحمة العامة لا يستثنى منها إنسانٌ، ولا دابة، ولا طير، بيد أن هناك من الناس والدواب من يكون مصدر خطرٍ ومسار رعبٍ، فيكون من رعاية مصلحة الجماعة كلها أن يحبس شره، ويكف ضرره، بل إن الشدة معه رحمة به وبغيره، فالإسلام رسالة خيرٍ وسلام، ورحمة للبشرية كلها بل للدنيا كلها، ولكن ذئاب البشر أبوا إلا اعتراض الرحمة المرسلة ووضع العوائق في طريقها؛ حتى لا تصل إلى الناس فيهلكوا في أودية الحيرات والجهالات، فلم يكُ بد من إزالة هذه العوائق والإغلاظ لأصحابها، ويوم ينقطع تعرضهم وتحديهم تشملهم هذه الرحمة العامة، فليس في الرحمة قصور، ولكنَّ القصور في من حرم نفسه متنزلاتها، اقرءوا قول الله عز وجل: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} [الأعراف:156 - 157].

ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة.

ثم صلوا وسلموا على نبيكم نبي الرحمة المهداة، والنعمة المسداة محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم جلَّ في علاه فقال في محكم تنزيله، وهو الصادق في قيله قولاً كريماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].

اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن بقية الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وإحسانك يا أكرم الأكرمين!

اللهم أعزَ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، واخذل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملة والدين.

اللهم آمنا في أوطاننا، واحفظ أئمتنا وولاة أمورنا، وأيدَّ بالحق والتوفيق والتأييد والتسديد إمامنا وولي أمرنا، ووفقه لما تحب وترضى، وارزقه البطانة الصالحة، وأعلِ به كلمتك، وأعز به دينك، واجعله نصرة للإسلام والمسلمين، وألبسه لباس الصحة والعافية، واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين!

اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين!

اللهم وأبرم لأمة الإسلام أمر رشدٍ يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، إنك على كل شيءٍ قدير.

اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين، وفي كشمير، وفي الشيشان، اللهم سدد سهامهم وآراءهم، وقوِّ عزائمهم، وأمدهم بنصرٍ من عندك يا قوي يا عزيز!

اللهم إن هؤلاء اليهود المحتلين الغاصبين قد بغوا وطغوا، وآذوا وأفسدوا، وقتلوا وشردوا، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم فرق جمعهم، وشتت شملهم، واجعل بأسهم بينهم، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم واجعل الدائرة عليهم يا ذا الجلال والإكرام!

اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلادنا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين!

اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015