أيها المسلمون: وإذا كان الأمر كذلك؛ فإن من أولى الناس وأحقهم بالرحمة وأولاهم بها الوالدين، فببرهما تُستجلَب الرحمة، وبالإحسان إليهما تكون السعادة: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:24].
ثم من بعد ذلك الأولاد فلذات الأكباد، فعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن على فخذه الأخرى، ثم يضمهما ثم يقول: اللهم ارحمهما فإني أرحمهما} أخرجه البخاري.
والمشاهد أن في الناس أجلافاً تخلو قلوبهم من الرقة والحنو، في مسالكهم فظاظة، وفي ألفاظهم غلظة، فقد قبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين رضي الله عنهما وعنده الأقرع بن حابس، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: {من لا يرحم لا يرحم} وفي رواية: {أوأملك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟} مخرَّج في الصحيحين من حديث عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما.
ويرتبط بالوالدين والأولاد حق أولي الأرحام، فالرحم مشتقة من الرحمة في مبناها، فحريٌّ أن تستقيم معها في معناها، وفي الحديث: {الرحم شجنة من الرحمة، من وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله} فليس للمسلم أن يوصد قلبه وبيته دون أقاربه، أو يقطع علائقهم، فلا يسدي لهم عوناً، ولا يواسيهم في ألم، ولا يبادرهم في معروف.
إن الغلظة والجفاء والقطيعة والصدود في حق ذوي الرحم تحرم العبد بركة الله وفضله، وتعرضه لسخط الله ومقته، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {الرحم شجنة من الرحمة تقول: يا رب إني قُطعت، يا رب إني ظُلمت، يا رب إني أسيء إليَّ فيجيبها: ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأن أقطع من قطعك} أخرجه أحمد.
ومن مواطن الرحمة: إحسان معاملة الخدم والترفق بهم فيما يكلَّفون به من أعمال، والتجاوز عن هفواتهم، وليحذر المرء من سطوة التصرف، فيسخّرهم ويسخر منهم، فإن الله إذا ملّكَ أحداً شيئاً فاستبد به وأساء سلبه ما ملّك، ويخشى عليه من سوء المنقلب.
يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: {خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي أفٍ قط، وما قال لشيءٍ صنعته: لم صنعته؟ ولا لشيء تركته: لم تركته؟} رواه مسلم، وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: {كنت أضرب غلاماً لي بالسوط، فسمعت صوتاً خلفي: اعلم أبا مسعود، فلم أفهم الصوت من الغضب، فلما دنا فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا هو يقول: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام.
فقلت: يا رسول الله! هو حر لوجه الله.
فقال: أما لو لم تفعل للفحتك النار}، وجاءه عليه الصلاة والسلام رجل يسأله: كم أعفو عن الخادم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: كل يومٍ سبعين مرة أخرجه أبو داود.
وفي الناس أقوام شداد قساة ينتهزون ضعف الخدم؛ فيوقعون بهم ألوان الأذى، وقد شدد الإسلام في ذلك وغلظ، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من ضرب سوطاً ظلماً اقتص منه يوم القيامة}.
وممن تتطلب حالتهم الرحمة: المرضى، وذوو العاهات والإعاقات وهم يعيشون في الحياة بوسائل منقوصة تعوق مسيرهم، وتحول دون تحقيق كل مقاصدهم، وتضيق بها صدورهم، وتحرج نفوسهم، فلقد قيدتهم عللهم، واجتمع عليهم حر الداء مع مر الدواء، فيجب الترفق بهم، والحذر من الإساءة إليهم، أو الاستهانة بمتطلبات راحتهم، فإن القسوة معهم جرمٌ عظيم: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور:61].
أما الصغار والأطفال فإنهم محتاجون إلى عناية خاصة، ورحمة راحمة،،فليس منَّا من لم يوقر كبيرنا، ويرحم صغيرنا، وللنفوس ذات الفطر السليمة تعلق بالصغير حتى يكبر، وبالمريض حتى يُشفى، وبالغائب حتى يحضر، وفي الحديث: {ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا} أخرجه أحمد والترمذي، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.