أيها المسلمون: وفي شواهد التاريخ -أيضاً- استطاعت لغة القرآن الكريم أن تحقق متطلبات المجتمع التاريخية عبر الأحقاب المختلفة، بكل المستويات الدينية والعلمية، والاقتصادية والاجتماعية، والسياسية والعسكرية في عصر النبوة، ثم في عصر الخلافة الراشدة، ثم في حكم بني أمية، وما رافقه من تعريب الدواوين، ونظم الإدارة للمجتمعات المختلفة، والأقاليم والجيوش والحياة العامة، كما استجابت اللغة لحاجات الحضارة أيام بني العباس وما واكبها من حركة الترجمة، بل هي لا غيرها كانت لغة العلم والبحث العلمي في الطب والعلوم والرياضيات والفلك والهندسة وغيرها.
إن الدولة الإسلامية على مر عصورها لم تأخذ من الأمم في احتكاكها معها إلا بمقدار الحاجة الماسة للتعبير عن بعض المعاني التي لم تكن موجودة في لغتها، ولم تفتنهم لغات هذه الأمم رغم حضاراتها العريقة، كفارس والروم واليونان، بل زادهم ذلك تمسكاً وحرصاً.
والعجيب في هذا التاريخ الإسلامي العظيم، وهذا الدين الأخاذ: أن أبناء الأمم الأخرى هم الذين كانوا يتسابقون إلى تعلم لغة القرآن، لغة الدين والعلم! بل هم الذين نبغوا فيها، وشاركوا على نحوٍ مدهش في وضع قواعدها، وجمع معاجمها، انطلاقاً من الشعور الإسلامي الرائع الذي أحلَّ لغة القرآن أرفع المنازل؛ لأنها لغة الدين والتنزيل، وفي كل أرجاء الأمة وأصقاعها تتردد أصداء هذا الحديث النبوي فيما يروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن العربية ليست لأحدكم بأبٍ ولا أم، إنما هي اللسان فمن تكلم العربية فهو عربي} والحديث ضعيفٌ في إسناده، ولكنه صحيحٌ في معناه، كما يقرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.