الحمد لله الواجب حمده، المتعالي جده، أحمده سبحانه وأشكره على آلائه العظام، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه على الدوام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عظم حلمه فعفا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله النبي المصطفى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الشرفاء، وأصحابه الحنفاء، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم واقتفى، أثبت ما أثبت ونفى ما نفى.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله -رحمكم الله- واحذروا الدنيا فإنها حلوة خضرة حُفت بالشهوات، وتحببت بالعاجلة، وتحلَّت بالآمال، وتزينت بالغرور، لا يدوم نعيمها، ولا تُؤمن غوائلها، غرارة ضرّارة، وصفها ربكم عز شأنه بقوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} [الكهف:45] لا زاد فيها مُدَّخر إلا زاد التقوى، ألا فاتقوا الله رحمكم الله!
أيها المسلمون! إن الأمة لتبلغ الأفق الأعلى من العز والمجد؛ حين تحفظ دينها، وتصون أخلاقها، وتحمي أوطانها، وترسخ سيادتها، وتحسن التدبير في مالها واقتصادها.
هذه المقاصد الكبرى، لا تتحقق ولا تحفظ ولا تُحمى إلا بعنصرين عظيمين: عزة النفس وقوتها، وتنمية المال وحسن إنفاقه، تعز النفس وتقوى بالمجاهدة والجهاد، مع صحة المعتقد والاستقامة على الحق وإعداد القوة، أما المال وكسبه وإنفاقه فهو السلاح المضَّاء، والعصب العاصب، يحرك الأمم، ويهدد الدول، ويفجر الحروب.
لا يمكن للأمة أن تبني مجدها وتواجه أعداءها بعد سلاح العقيدة وزاد الإيمان؛ إلا بسلاح المال، وقوة الاقتصاد، وحسن التدبير والمسارعة في العطاء والبذل، ومن ملك المال ملك النفوذ، وذهب أهل الدثور بالأجور، والجهاد بالمال قرين الجهاد بالنفس.
أيها الإخوة المسلمون! إن أجزاءً كثيرةً من هذا العالم في حالٍ من التدهور، سريع أو بطيء، ظاهر أو خفي، وإن كثرة كافرة من أمم الأرض تعمل ويكسب غيرها، وتتعب ويستريح غيرها، وتشقى ويسعد غيرها، وتبأس وينعم غيرها.
أيها المسلمون! لم يحدث أن شاع الفساد وعمّ الاضطراب مثلما شاع في هذه الأزمان المتأخرة، ومع هذه الحضارات المعاصرة؛ سادت الفاحشة، وفشا الخمر، وانتشر القمار والميسر فسادٌ يدخل من كل باب -إلا ما رحم ربي- في هذا العالم المادي المكفهر، والذي تتطور فيه تقنيات التصنيع والإنتاج، فلا ترى إلا التضخم والبطالة وكساد سوق العمل.