لقد أنيط ضبط كثير من الأمور الموقوتة المتعلقة بالعبادات والمعاملات بما تدركه فهومهم من مكلفين، وما جرت عليه عاداتهم، ولم يكلفوا في شئونهم العامة قوانين دقيقة، ولا مقاييس لا يدركها إلا مختصون، أو قلة من المختصين، والسر في ذلك أن الضبط بالمواقيت مقياس تحضر الأمم؛ ولكن مزيد التدقيق في التوقيت تضييق وحرج، فإذا ما دققت وسائل التوقيتات ضاق الحال على المكلفين.
من أجل هذا -أيها المسلمون- كان مدار الأحكام والتعاملات على أمور ميسرة يعرفها العامة والخاصة، وبناءً على ذلك فقد علق الشارع الأحكام المرتبطة بالأشهر على الأهلة، بإحدى طريقتين:
- إما رؤية الهلال.
- وإما إكمال العدة ثلاثين.
وهما طريقتان ميسرتان، يعرفهما عموم الخلق فهو ربط بأمر محسوس يستوي في إدراكه جميع البشر.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمَّ عليكم فاقدروا له} أخرجاه في الصحيحين.
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين} رواه مالك وأبو داود والترمذي والنسائي.
والشهر الهلالي يكون تارة ثلاثين يوماً، وتارة تسعةً وعشرين يوماً، ففي الحديث الصحيح: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الشهر يكون تسعاً وعشرين، ويكون ثلاثين، فإذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين} أخرجه الشيخان وغيرهما.
وأصح المعلومات ما شوهد بالبصر، وسُمي الهلال هلالاًَ لظهوره وبيانه، والحكم مبني على رؤية الهلال بالبصر، لا على ولادته ولا على وجوده في السماء، فإن لَمْ يُرَ بالبصر أكمل الناس عدة الشهر ثلاثين يوماً، ففي الحديث الصحيح: {فإن حال دونه غمامة فأتموا العدة ثلاثين} وهو توجيه جلي؛ لأن الهلال إذا لَمْ يُرَ بسبب حائل من غمام أو غبار فإن المطلوب إكمال ثلاثين يوماً، ولا يتكلف المسلمون أكثر من ذلك.
والرؤية شيء حسي عملي، وليست فكراً ولا حساباً، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ألا يدخل في صوم إلا برؤية محققة أو بشهادة شاهد واحد، فإن لم يكن رؤية ولا شهادة أكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً.
وقد تواترت الأحاديث بالأمر بصيام رمضان إذا رئي هلال رمضان، والفطر إذا رئي هلال شوال، وإتمام العدة ثلاثين إذا لَمْ يُرَ الهلال، فالحكم متعلق برؤية.
على أن من المعلوم المتقرر لدى أهل العلم خاصة، ولدى أهل الإسلام عامة أن النص الصحيح لا يعارض العقل الصريح، وأن حقائق الدين لا تتعارض مع الثابت من حقائق العلم، حتى قال الإمام الشاطبي رحمه الله: "كل معنى لا يستقيم مع الأصول الشرعية أو القواعد العقلية القطعية لا يعتمد عليه".
كما أن الشهادة إذا اقترن بها ما يكذبها من المنافاة لبداهة العقل أو حقائق العلم فإنها تُرَد.
ومع وضوح هذا وجلائه؛ لكن يجب أن يُعْلَم ويتقرر أن الحكم بأن هذا مصادم للعقل أو معارض للمقطوع به من الحقائق أمر دقيق، ولا يُقبل من كل أحد، ولا سيما بعض العقلانيين الذين يسارعون إلى مثل هذه الأحكام، فلا يؤخذ منهم في مثل هذا رأي أو قول، بل لا يقبل هذا إلا من أهل علم وبصيرة، من الذين جمع الله لهم بين العلم الراسخ، والفقه العميق، والعقل الراجح مع الورع والتقوى، وحسن التدين.
وبعد أيها المسلمون: ففي حسابنا أهل الإسلام، وفي تقويمنا الهلالي لا يكاد شهر رجب يقبل ومن ورائه شهر شعبان حتى يتنسم المسلمون عبق شهر القرآن الكريم، ولا يكاد يطل على الناس هلاله حتى يغمر حياة أهل الإيمان نور الخشية والذكر الجميل.
هلال رمضان طلعة الوليد، وبشير الخير، ومشرق أنوار القرآن، وشذا نفحات الجنان، وواحة الاسترواح في صحراء الضعف والتقصير، وراح الأرواح بالصلاة والصيام والقيام والقرآن والذكر الحكيم.
من أجل هذا تربى المسلم أن يقول إذا رأى الهلال: {هلال رشد وخير، هلال رشد وخير، هلال رشد وخير، آمنت بالذي خلقك، الحمد لله الذي ذهب بشهر كذا وجاء بشهر كذا، ربي وربك الله، اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام}.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:37 - 40].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد صلى الله عليه وسلم.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.