طلبه للعلم

أما طلبه للعلم:

فكان دءوباً جاداً قد صرف نفسه إليه في همة وصبر، فهو ذو الحافظة الواعية، والقلب العقول، والذكاء المتقد، مع الصلاح والتقى، متحفزاً إلى مجالسة الرجال، ومذاكرة الأفذاذ، ومزاحمة الفحول، من أهل العلم الأعلام، لم تمنعه شدة الحر اللاهب، ولا الجو اللافح من أن يخرج من منزله يترقب أوقات خروج العلماء، يقول رحمه الله: كنت آتي نافعاً مولى ابن عمر نصف النهار، وما تظلني شجرة من الشمس، أتحيل خروجه فإذا خرج أدعه ساعة حتى إذا دخل قلت له: كيف قال ابن عمر في كذا وكذا؟ ثم أحبس عنه -أي أتوقف عن السؤال- لأنه كان فيه حدة.

ويقول أيضاً: صليت يوم العيد فقلت هذا يومٌ يخلو فيه ابن شهاب الزهري فانصرفت من المصلى، حتى جلست على بابه فسمعته يقول لجاريته: انظري من بالباب، فنظرت فسمعتها تقول: مولاك الأشقر مالك، فقال: أدخليه، فدخلت، فقال: ما أراك انصرفت بعد إلى منزلك؟

فقلت: لا.

قال: هل أكلت شيئاً؟

قلت: لا.

قال: اطعم.

فقلت: لا حاجة لي فيه.

قال: فما تريد؟

قلت: تحدثني.

قال: هات، فأخرجت ألواحي، فحدثني بأربعين حديثاً.

فقلت: زدني.

فقال: حسبك إن كنت رويت هذه الأحاديث فأنت من الحفاظ.

فقلت: قد رويتها -أي حفظتها-.

قال: فجذب الزهري الألواح من يدي ثم قال: حدث، فحدثته بها، فردها إليَّ، وقال: قم فأنت من أوعية العلم.

أيها الشباب! يا طلبة العلم! هكذا هو الحرص، وهذا هو الجد، هذا الإمام يتحين أوقات الخلوة والفراغ ليحصل على طلبته من العلم وحاجته من الرواية، ناهيكم بما وهبه الله من قوة الحافظة واستيعاب الرواية، أربعون حديثاً بأسانيدها ما أن يفرغ من كتابتها حتى يعيدها عن ظهر قلب، والألواح في يد شيخه، ثم نال هذه الشهادة العالية الغالية (قم فأنت من أوعية العلم).

جديرٌ بطلاب العلم، وشباب الإسلام أن ترتفع هممهم، وتعلوا تطلعاتهم، ولا يكتفوا بفتات الموائد، ويعيشوا عالة على أمجاد الماضي، وجهود الأسلاف مع الحرص على الصلاح والتقوى والإخلاص.

يقول مالك رحمه الله: ليس العلم بكثرة الرواية، وإنما العلم نورٌ يضعه الله في القلب، والعلم لا يأنس إلا بقلب تقيٍ خاشع.

لقد نضج الإمام مالك رحمه الله في العلم مبكراً، ونبغ في التحصيل على الأقران سابقاً، فتصدر للفتيا وهو فتى، لكنه لم يجلس للإفتاء إلا بعد أن شهد له العلماء بالأهلية.

ومن مأثور كلامه في ذلك هذه البليغة الرائعة: لا خير فيمن يرى نفسه في حالٍ لا يراه الناس لها أهلاً، ويقول: ما جلست للفتيا حتى شهد لي سبعون شيخاً من أهل العلم أني موضعٌ لذلك.

وكان ورعاً في دين الله، متحرياً في الفتيا، شديد الحذر، ينهى عن التعجل ويقول: ربما وردت عليَّ المسألة فأسهر فيها عامة ليلتي، ويقول: إني لأفكر في المسألة منذ بضع عشرة فما اتفق لي فيها رأيٌ حتى اليوم.

وكان رحمه الله حين يكثر عليه طلاب المسألة، يكف ويقول: حسبكم من أكثر أخطأ، وكان يعيب كثرة ذلك، ويقول: من أحب أن يجيب عن مسألة فليعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة ثم يجيب، وسئل عن ثمانٍ وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين لا أدري.

ذلكم هو الإمام مالكٌ رحمه الله، أمد الله في عمره، حتى أوفى على التسعين عاماً، ولازمه المرض آخر أيامه فانقطع عن الخروج للناس ولكنه لم ينقطع عن الدرس والعلم والحديث والفتيا رحمه الله.

أيها المسلمون! أبناء الإسلام! هذه قبساتٌ من سيرته في الحياة، وشذرات من مسيرته في العلم، فلينظر في ذلك ناشئة الإسلام، تأملاً في سير هؤلاء الأعلام، وتتبعاً لحياتهم وهم نشأٌ يتدرجون في مدارج الحياة وشببة يتلقون العلم ويجدون في التحصيل والطلب، وكهولٌ قد برزت مواهبهم، واستقامت مناهجهم، ثم شيوخ قد فاضت علومهم على من حولهم، وضربت إليهم أكباد الإبل، وشدت إليهم الرحال من أقاصي الدنيا، وزخرت مجالسهم بالطلاب، وعمرت حلقاتهم بالتلاميذ وافدين من كل صقع، واردين من كل فجاج، علمٌ وإيمانٌ وتقى.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة:11].

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015