ولد في المدينة المنورة متنزل الوحي ومهد العلم ومنهل المعرفة، سنة ثلاثٍ وتسعين للهجرة، بها نشأ وترعرع واستقر، شب مالك رحمه الله في بيت علم، ولا سيما علوم الحديث والأثر، واستطلاع الآثار وأخبار الصحابة وفتاويهم، فأسرته رحمه الله من بيوت العلم المشهورة، والناشئ في العادة تتغذى مواهبه ومنازعه من منزع بيته وما يتجه إليه أهله، فشبت تحت ظلها المواهب، بل كان معاشه في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أضلته سماؤها، وأقلته أرضها، موطن الشرع، ومبعث الهدى، ومعقد الحكم الإسلامي الأول، وقصبة الإسلام في عهد الخلافة الراشدة، اجتمع به الرعيل الأول من علماء الصحابة، ثم تلاميذهم، حتى جاء مالك رحمه الله فوجد هذه التركة الثرية من العلم والحديث والفتوى، فنمت مواهبه في كنفها، وجنى من ثمرتها، وتلقى عن رجالها.
كان رضي الله عنه من أعقل أهل زمانه، وأعظمهم مروءة، كثير الصمت، قليل الكلام، متحفظ اللسان، وكان يقول: من أحب أن يفتح على قلبه، وينجو من أهوال يوم القيامة، فليكن عمله في السر أكثر منه في العلانية.
كما كان حسن الخلق بين أهله وولده، ويقول: إن في ذلك مرضاة لربك، ومثراة في مالك، ومنسأة في أجلك، وقد بلغني ذلك عن بعض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وفي الحديث: {من أحب أن ينسأ له في أثره، ويبسط له في رزقه؛ فليصل رحمه}.
ولقد حرص مالكٌ رحمه الله أن يتمثل حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم من كريم السجايا وجميل الشمائل وصفاء السرائر، فكانت حياته نبراساً مضيئاً للمتأسي، في مبتدأ حياته، مسه عسر في المعيشة، حتى إن ابنته لتبكي من شدة الجوع لا تجد ما تأكله، وحتى قال تلميذه ابن القاسم: أدى بـ مالك طلب العلم إلى أن ينقض سقف بيته ليبيع خشبه، ثم بسط الله له في رزقه، ورفع عنه الضيق فاتسعت حاله، فكان عند انبساطه معترفاً بفضل الله عليه، حتى إنه ليقول: ما أحب لامرئ أنعم الله عليه ألا يرى أثر نعمته عليه، ويقول: أحب للقارئ أن يكون أبيض الثياب، ولقد كان أثر النعمة عليه بادياً؛ في طعامه وشرابه، وملبسه ومركبه، وكان يعتني بذلك من نفسه في ثيابه وأثاثه، ويستعمل الطيب الجيد.