أحمد الله تبارك وتعالى، وأصلي وأسلم على رسوله وخيرته من خلقه، ومصطفاه من رسله، سيدنا ونبينا محمد رسول الله، بعثه بالحق بشيراً ونذيراً، فبلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجعلنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة! أشكر الله -عز وجل- على هذا اللقاء الطيب المبارك، ثم أشكر من كان سبباً لحضوري ومثولي بين يديكم لألقي هذه الورقة في مهرجان الجنادرية وأشكر القائمين عليه واللجنة المنظمة لهذا النشاط الثقافي الذي أرجو أن يعدلوا فيه عن كلمةٍ على هامش المهرجان، فأرجو أن يُعتبر النشاط الثقافي زميلاً للمهرجان، فإن الفكر وتربية الفكر، وغذاء الفكر أظنها مقصودٌ أعظمٌ من مقصود المهرجان، فأرجو أن تستبدل هذه العبارة لأني سمعتها هذه الليلة كما سمعتها ليلة أمس، فأرجو أنهم لا يعتبرون أنها على تهميشٍ حقيقيٍ، وإنما هي عبارة دارجة، قد يكون من لفظها لم يقصد المعنى الذي قد يتبادر إلى بعض الذين لا يعرفون مقاصد هذا المهرجان الطيب المبارك الموفق، فهو تراثٌ شعبيٌ نابعٌ من فكر أصيل، ويقصد -أيضاً- تثبيت الفكر الأصيل فكر هذه البلاد النابع من دينها، ومنطلق من رسالة نبيها محمد صلى الله عليه وسلم.
أيها الإخوة! كما سمعتم الموضوع هو "أدب الحوار" وهذا موضوع اختاره المنظمون ورغبوا من محدثكم أن يتكلم فيه، فسوف يكون الحديث عن تعريفٍ للحوار، وبيانٍ لغايته، ثم إشارة إلى بعض أصول الحوار، ومبادئه، ثم كلام في بعض آداب الحوار.
أقول: إن الذي سوف تسمعونه ليس حصراً للأصول، ولا للآداب؛ لأن هذا الأمر وبخاصة من يطلع ويقرأ؛ فإنه سوف يجد فيما يسمع أموراً لم تُذكر، أو لعله لم يسمعها، لأن الأمر فيه سعة، والإحاطة به في مثل هذا المقام متعذرة، ولكن لعلَّ في بعض الأصول والمبادئ التي ذكرت ما يغني عما لم يُذكَر.
أيها الإخوة! الحوار والجدال كلمتان لهما معناهما في اللغة ويقوم أحدهما مقام الآخر.
الحوار من المحاورة وهي: المراجعة في الكلام، والجدال من: جدل الحبل إذا فتله، الجدال في أصله كان ينبغي أن يكون ممنوعاً، وفي أصل اللغة كان يستعمل لمن خاصم بما يشغل عن ظهور الحق، ووضوح الصواب، ثم استغني في مقابلة الأدلة بظهور أرجحها؛ بمعنى أن تقابل فيما بينها حتى يتبين الأرجح منها.
والحوار والجدال كلمتان ذواتا دلالة واحدة، وقد اجتمع اللفظان في قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1].
ويراد بالحوار والجدال في مصطلح الناس مناقشةٌ بين طرفين، أو أطرافٍ يُقصدُ بها تصحيح كلامٍ، وإظهار حجةٍ، وإثبات حقٍ، ودفع شبهةٍ، ورد الفاسد من القول والرأي، وسوف يتبين هذا من غاية الحوار إن شاء الله، وقد يكون من الوسائل المستخدمة في الحوار، أو في الجدال الطرق المنطقية والقياسات الجدلية من المقدمات والمسلمات مما هو مبسوطٌ في كتب المنطق، وعلم الكلام، وآداب البحث والمناظرة، وأصول الفقه.