أيها الإخوة: والأوقاف والأحباس ليست مقصورة ولا محصورة في الفقراء والأقربين، ولكنها أوسع من ذلك وأشمل.
لقد كان للوقف أثراً عظيماً في نشر الدين، وحمل رسالة الإسلام، ونشاط المدارس، والحركة العلمية في أقطار المسلمين وأقاليمهم، في حركة منقطعة النظير غير متأثرة بالأحداث السياسية والتقلبات الاجتماعية، فوفَّرت للمسلمين نتاجاً علمياً ضخماً، وتراثاً إسلامياً خالداً، وفحولاً من العلماء برزوا في تاريخ الإسلام؛ بل في تاريخ العالم كله.
في الوقف: تحقيق مصالح للأمة، وتوفير لكثير من احتياجاتها، ودعم لتطورها ورقيها وصناعة حضارتها.
إنه يوفر الدعم المادي للمشروعات الإنمائية والأبحاث العلمية.
إنه يمتد ليشمل كثيراً من الميادين والمشروعات التي تخدم في مجالات واسعة وميادين متعددة ومتجردة.
إن المساجد ما كانت لتُعْمَّر وتنتشر هذا الانتشار في تاريخ الإسلام كله إلا بطريق الأوقاف أوقاف يُصْرَف ريعها من أجل حفظ كتاب الله وكتابته وطباعته ونشره، ويُصْرَف في الدراسات القرآنية, وخدمة علوم السنة وسائر فروع علوم الشريعة.
الأوقاف دعامة من الدعامات الكُبرى للنهوض بالمجتمع، ورعاية أفراده، وتوفير الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية.
بالأوقاف تُبْنَى مَصَحَّات ومستشفيات، يُراعى فيها أحوال الفقراء وذوي الدخول المتدنية.
تُشاد بها دور وملاجئ وأربطة تحفظ اليتامى، وتؤوي الأرامل، وتقي الأحداث مصارع الضياع، نُزُلٌُ وفنادق تؤوي المنقطعين والمحتاجين من الغرباء وأبناء السبيل، مؤسسات إغاثية ترعى المنكوبين من المسلمين في كل مكان، صناديق أوقاف لإعانة المعسرين وتزويج غير القادرين.
تقوم على الأوقاف مدارس وجامعات، وعلوم وأبحاث، ذوو اليسار والغنى، يمدون المؤسسات والصناديق الوقفية بأموالهم، والخبراء والمتخصصون والمتفرغون الموثوقون يديرون هذه المؤسسات والصناديق بشروط دقيقة، وأنظمة شاملة، على ما يقتضيه الشرع المطهر.
أيها المسلمون: إن الإسلام بتاريخه وحضارته قد تميزَّ فيما تميز بما أبرزه المسلمون من أوقاف على مساجدهم ومدارسهم وطلبة العلم فيهم، وذوي الحوائج منهم، مما كان له الأثر البالغ في نشر الإسلام، وتنشئة المسلمين على العلم والصلاح، وحفظ كرامة المحتاجين، ورعاية الأقربين، وحفظ أصول الأملاك، فأغنت -بإذن الله- وأغاثت وأعفَّت وعاشوا أعزة لا يمدون يداً للئيم.
وبعد أيها الإخوة: ففي نظرة عاقلة متبصرة يتبين أن مال الإنسان ما قدَّمه لنفسه ذخراً عند ربه: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:94].
وفي الحديث الصحيح: {يقول ابن آدم: مالي مالي! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدَّقت فأبقيت، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس}.
وفي الحديث الآخر: {إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به بعده، أو ولد صالح يدعو له} والإنسان ينتقل من دنياه غنياً عما خلف، فقيراً إلى ما قدم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [البقرة:272].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد صلى الله عليه وسلم.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.