سنة تقلب الدهر

الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد: فكما وعدتكم في الدرس الماضي، فإن هذا الدرس سوف يكون عن "أسباب سقوط الدول"، ورقم هذه الحلقة: (18) وهي تنعقد في مساء الأحد ليلة الإثنين: 7/صفر/1411هـ.

إخوتي الكرام: الدهر دول، والأيام قُلَّب، ولو بقيت الدنيا لمَنْ قَبْلَنا لما وصلت إلينا، ولو بقي المُلك في أيدي السابقين لَمَا وصل إلى اللاحقين، يقول الله عز وجل: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] .

فيوم علينا ويوم لنا ويوم نساءُ ويوم نسر ويقول عز وجل: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251] هكذا قرأها الجماعة: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ} [البقرة:251] وقرأها آخرون: {وَلَوْلا دِفَاعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [البقرة:251] بكسر الدال في (دفاع) والمعنى واحد.

أي: أن الله يدفع الناس بعضهم ببعض، فيدفع هذا بهذا، وهذا بهذا، يدفع الكافر بالمؤمن، ويدفع البلاء عن الفاسقين بالمطيع، وهكذا يبتلي الله بعض العباد ببعض، يبتلي المؤمن بالكافر، ويبتلي الكافر أيضاً بالمؤمن.

وهذه الآية تبين لنا سنة إلهية، يسميها بعض العلماء: سنة الخلفية، والخلفية يعني: أن كل شيء في هذه الدنيا له خلف لا يبقى، فالإنسان -مثلاً- يموت ويخلفه أولاده من بعده، وهكذا سائر الحيوان، وكذلك النبات يكون البذر فيه، فإذا مات منه شيء نبت شيء آخر، وهكذا الحال في العناصر الكيميائية، وفي غيرها مما هو موجود في هذه الدنيا؛ فإن كل شيء يخلفه شيء آخر، وقد جعل الله عز وجل في طبيعة هذا الشيء أنه قابل لأن يكبر عن شيء آخر يَضْمَحِلُّ ويزول.

وهكذا الشأن تماماً في الدول، فإننا نعلم الآن أن التاريخ - وقد مر في هذه الدنيا حقب، وعصور، ودهور طويلة - يشهد نهاية دولة وقيام دولة أخرى، وقد يطول عمر الدولة وقد يقصر، لكن النهاية عليها محتومة، كالموت بالنسبة للإنسان، فقد يمتد عمر الإنسان إلى مائة سنة، ومائة وعشر، ومائة وعشرين سنة، لكن في النهاية لا بد أن يموت، ويكون من بعده ورثته وذريته.

وهكذا الشأن في الدول، فقد يطول عمر الدولة، حتى تصبح كما كانت دولة بني العباس، أو دولة العثمانيين، تنيف على خمسة قرون، لكن أتتها النهاية فانتهت، وزالت، وبادت، وقد يقصر عمر بعض الدول حتى تكون سنين قصيرة، أو عشرات السنين على أكثر تقدير.

ولو كُتب للإنسان أن يقرأ تاريخ أمة من الأمم، أو دولة من الدول لتعجب من كثرة الملوك، والحكام الذين مروا عليها، وهذا إذا حصل للإنسان فإنه يعطيه إحساساً بالتاريخ، ومعرفة بتغير الأحداث.

وأذكر كتاباً أو قصيدة بالأصح لرجل يمني اسمه نشوان بن سعيد الحميري، ونشوان هذا كتب قصيدة يؤرخ فيها للتبابعة ملوك اليمن، وهم يزيدون عن ألف ملك.

وقد كتب قصيدة جميلة حلوة، فيها عبرة وعظة يؤرخ فيها لهؤلاء الملوك، وهي قصيرة مطبوعة مع شرح لها بعنوان: "خلاصة السيرة الجامعة لملوك اليمن التبابعة" وهذه القصيدة يقول في مطلعها: الأمر جد وهو غير مزاحِ فاعمل لنفسك صالحاً يا صاحِ كيف البقاء مع اختلاف طبائعٍ وكرور ليل دائمٍ وصباحِ تجري بنا الدنيا على خطرٍ كما تجري عليه سفينة الملاحِ تجري بنا في لج بحرٍ ما له من ساحل أبداً ولا ضحضاح إلى أن يقول - بعدما سرد مجموعة من الملوك -: وملوك حمير ألف ملك أصبحوا في الترب رهن ضرائح وصفاحِ إلى آخر تلك القصيدة.

المهم: أنه يسرد لك أسماء الملوك، وكم عاشوا، وما شيدوا وبنوا وحكموا وقتلوا وسفكوا، وفي النهاية أفناهم الدهر، ثم انتهت أيامه ولياليه، وأصبح خبراً وأثراً بعد عين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015