ثم بين الله عز وجل أنه لا يمكن أن تتحقق لهم حقيقة الإيمان إلا بشروط، وأقسم الله عز وجل على هذه الحقيقة، والقسم من الله يدل على أهمية الأمر المقسم عليه، ولذلك ورد كما ذكر القرطبي وغيره من المفسرين أن: أعرابياً سمع قول الله عز وجل: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات:23] فبكى، وقال: من أغضب الجليل حتى حلف.
فربنا عز وجل يقسم بذاته المقدسة أنهم لا يمكن أن يؤمنوا إلا إذا حَكَّموا الرسول، فيقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65] فيلتزمون التزاماً ظاهراً بحكمه فيما يعرض لهم من الخصومات والمنازعات وغيرها {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] فأكد الفعل بالمصدر الذي يدل على انتفاء أدنى قدر من الحرج أو التردد أو التبرم أو الضيق أو الشك.
فالآية اشترطت للإيمان الشرطين: أولاً: عقد القلب، ثانياً: عمل الجوارح، وهذا ما قَرَّرْتُه في بداية هذه الكلمة، فلا بد من الإذعان العملي والقلبي لحكم الله عز وجل، وقد ورد في سبب نزول هذه الآية روايتان: الرواية الأولى: ما رواه عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي الحافظ المعروف بـ دحيم في تفسيره عن عتيبة بن ضمرة عن أبيه أن رجلين من المسلمين تحاكما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في خصومة كانت بينهما، فحكم النبي صلى الله عليه وسلم لأحدهما على الآخر، فلما خرجا، قال المحكوم عليه: [[لا أرضى حتى نذهب إلى أبي بكر]] فذهبا إلى أبي بكر، فقالا له: [[إننا ذهبنا الى النبي صلى الله عليه وسلم فحكم لأحدنا، فلم يرضَ فلان حتى أتينا إليك]] فردهما أبو بكر وأمرهما بالامتثال لحكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فخرجا من عنده، فذهبا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما جلسا عنده ذكر أحدهما له قصة ذهابهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم إلى أبي بكر، فقال عمر للمحكوم عليه: [[أكذلك؟ هل هذا صحيح؟ قال: نعم، قال: انتظرا حتى آتي فأحكم بينكما]] فخَرَج من عندهما؛ واشتمل على السيف ودخل ثم ضرب المحكوم عليه الذي لم يقبل لحكم الرسول صلى الله عليه وسلم ضربةً بالسيف حتى قتله، وأدبر الآخر، فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! قتل عمر - والله - صاحبي، ولولا أني أعجزته لقتلني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما كنت أظن أن يجترئ عمر على قتل مؤمن} فأنزل الله: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} [النساء:65] الآية، فهدر دم ذلك الرجل، وبرئ عمر من قتله له.
وهذه الرواية المرسلة قال الإمام ابن تيمية بعد أن ذكرها في كتابه المعروف الصارم المسلول: "وهذا المرسل له شاهدٌ من وجه آخر يصلح للاعتبار".
الرواية الثانية: في سبب نزول هذه الآية هو ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أن رجلين من الصحابة أحدهما الزبير بن العوام، والآخر رجل من أهل المدينة من الأنصار، اختصما في شريج الحرَّة ومسيل الماء، فذهبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: {اسقِ يا زبير! ثم ارسل الماء إلى جارك} أي: الأنصاري، فقال الأنصاري: أإن كان ابن عمتك يا رسول الله؟! أي: حكمت له؛ لأنه ابن عمتك، فتلَوَّن وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: {اسق يا زبير حتى يبلغ الماء إلى الجدار، ثم ارسل الماء إلى جارك} فاستوعى النبي صلى الله عليه وسلم لـ الزبير حقه بصريح الحكم حين أحفظه الأنصاري وكان أشار عليهما قبل ذلك بأمر لهما فيه سَعَة، فالأصل أن الحكم هو ما حكم به الرسول صلى الله عليه وسلم أخِيراً، وكان الأول منه عليه الصلاة والسلام صلحاً بينهما، فلما أغضبه الأنصاري استوعى لـ الزبير حقه، ثم نزلت هذه الآية: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] وأياً كان السبب فهو صريح وواضح في وجوب الانقياد والإذعان لحكم الله تعالى وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم.