إن الإمام مالك كان يرى أن المسائل الفقهية والمسائل الاجتهادية، فيها مسرح واسع، ومجال عريض للاختلاف، وأن الأقوال فيها محتملة، والأدلة فيها متقاربة، وأحياناً متقابلة، ولا حرج عليّ أن أخالفك بمقتضى الدليل، ولا حرج عليك أن تخالفني، ولا مانع أن ترد علي بالحكمة والموعظة الحسنة، ولا مانع أيضاً أن أرد عليك بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالأسلوب الطيب المناسب، ليس من همي أن أرد عليك حتى أسقطك، وأمرغك أمام الناس، وأجعلك في موقع غير محمود، أو أشوه صورتك أمام الناس! كلا، وإنما كان همي الوصول إلى الحق الذي تهتدي به أنت قبل غيرك، أو همك الوصول إلى الحق الذي أهتدي به أنا قبل غيري، هذا كان همنا، لذلك التزمنا بالأسلوب الحسن، والحكمة والموعظة الحسنة، والكلمة الطيبة؛ لأنني لا أريد أن أوحش صدرك فلا تقبل مني.
قال الإمام أحمد: [[ما أغضبت أحداً قط فقبل منك] تغضبني وتشتمني وتسبني وتتهمني، ثم تريد مني أن أقبل منك! قد يكون هذا لو أنني صاحب خلق عظيم، وصاحب قدرة كبيرة على التحمل، وأنني تخلقت بالأخلاق التي ورثها الناس عن الأنبياء، فصرت صابراً مثابراً قوياً محتملاً، لا أغضب لنفسي، لكن من يملك مثل هذا؟! أكثر الناس لا يملكونه، ويتأثرون بالأسلوب والكلمة، ولهذا تجد أن أهل العلم الصادقين الغيورين المخلصين، وأضرب -مثلاً- منهم في هذا العصر بالإمام الكبير عبد العزيز بن باز، يخاطب حتى بعض الذين نسبت إليهم البدع، وبعض المخالفات الشرعية، وبعض الضلال في مسائل من الشريعة، فضلاً عن بعض المخالفات الفرعية الاجتهادية، يخاطبهم بالأسلوب الحسن.
وقد وقفت بنفسي على رسالة بعث بها سماحته إلى رجل من أعلام الفكر والدعوة في هذا العصر، ولكن عليه ملاحظات وأسئلة، وحوله بعض الكلام، وله اجتهادات في مسائل عديدة، قد لا يوافق على جميعها، فكُتب إلى الشيخ عبد العزيز بن باز عن هذا الرجل، فماذا فعل؟! كَتَبَ إليه رسالة، وقد وقفت بنفسي على كل هذا، وبجله ومدحه وأثنى عليه، وقال: إلى فضيلة الأخ الداعية العالم الدكتور المفكر فلان بن فلان حفظه الله، ثم سلم عليه، وأثنى عليه، ودعا له وشكره على جهوده في خدمة الدين، وعلى بذله وبلائه وصبره وعلى وعلى وبعدما هيأ نفسه للقبول، قال: بلغنا من بعض الناس كيت وكيت وكيت، ثم ذكر كل ما نسب، وقال: فأحببنا أن نتثبت وألا نقول إلا ببينة، ورأينا أنك أقرب من نخاطبه في ذلك ونسمع منه، فنحب أن تبين لنا في ذلك، فكتب هذا الرجل إلى الشيخ عبد العزيز بن باز ما كتب.
فتشعر بأن الإمام عبد العزيز بن باز لم يكن همه أن يشهر بهذا الداعية، أو يحط من قدر ذاته، أو يشوه صورته؛ لأن العامة من المسلمين إلى أين يذهبون، إذا سقط هذا وسقط هذا، وسقط هذا، من بقي للناس؟! هب أنك أفلحت أن تقنع الناس، بأن (س، من الناس) غير مناسب، ولا جيد، وليس على الجادة، ولا على السنة، ولا على الطريق، ويجب أن يترك، و (ص، من الناس) مثله، و (ع، من الناس) كذلك، إذاً، من بقي للناس؟ المهم البناء وليس الهدم، والناس لا يتركون شيئاً إلا بشيء، وليست القضية قضية منافسة، فالساحة ملأى، ونحن نرى أن الأمة وقعت ضحية تضليل كثير من أهل الفساد، والإلحاد، والعلمانية، والزندقة، وأصبح يمثل الأمة أحياناً، في محافل دولية، وأدبية وفكرية ملاحدة، وزنادقة وأهل الإلحاد، وأهل الحداثة، وأهل الكفر، فضلاً عن أهل البدعة والضلالة، المعلنين المعروفين المشهورين.
فلماذا نستغرب أن تقع الأمة ضحية، وهب أن الأمة اغترت بفلان، ولم يكن من هؤلاء ولا من أولئك، يجب عليك أن تسعى إلى إنقاذ الأمة من أن تغتر بهؤلاء الزنادقة، وتسعى إلى إنقاذها من أن تغتر بهؤلاء المبتدعة المعلنين بالبدعة، قبل أن تسعى إلى إنقاذ الأمة مما تظنه أنت اغتراراً بفلان في مسائل إن كان ما تعتقده أنت صواباً، فالخطب يسير، والأمر لا يدعو إلى كفر وإيمان، وليس هدىً أو ضلالاً، وإنما المسألة مسألة اجتهاد، يخطئ ويصيب، ومسألة قول راجح أو قول مرجوح.
هذا بعض ما أحببت أن أقوله عن الإمام مالك، وفي سيرة الإمام مالك الكثير مما لا يتسع المجال لذكره.