إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده رسوله {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد الذي حمل الرسالة وبلغها، وأقام الحجة ولم يمت صلى الله عليه وسلم حتى بلغ البلاغ المبين.
لله تلك اللحظات والساعات التي كان يقضيها خير البرية بين أصحابه الكرام من المهاجرين والأنصار! وما أطيب الأرض التي وطئتها أقدام هؤلاء القوم الطيبين الطاهرين -مكة والمدينة- خير بقاع الأرض وأحبها إلى الله عز وجل!!.
كان صلى الله عليه وسلم يعلّم أصحابه ويلقنَهم من دروس الحكمة والعلم بالقول والفعل، ما يعجز الأولين والآخرين من البشر، فإن الله عز وجل آتاه الكتاب والحكمة، وعلمه ما لم يكن يعلم، وكان فضل الله عليه عظيماً، كان صلى الله عليه وسلم يوماً جالساً مع أصحابه، فقال كما رواه عمر بن الخطاب، وذكره البخاري في صحيحه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوماً: {ما من أحد منكم يشهد له أربعة بالخير إلا أدخله الله الجنة فقال رجل: وثلاثة يا رسول الله؟! قال: وثلاثة، قال: واثنان؟ قال: واثنان، قال عمر رضي الله عنه: ثم لم نسأله عن الواحد} .
فعلمهم صلى الله عليه وسلم بالقول، أن أي امرئ شهد له أربعة من المؤمنين بالخير أو ثلاثة أو اثنان، فإن الله عز وجل يدخله الجنة، أما الواحد فلم يسألوه عنه؛ لأنهم أدركوا أنه إذا لم تقبل شهادة الواحد في أمور الدنيا، في التجارات والبيع والشراء، في الأراضي، فكيف تقبل شهادة الواحد على صلاح الإنسان، ليكون أهلاً لدخول الجنة؟ ولهذا لم يسألوه صلى الله عليه وسلم عن الواحد.
ولما لقنهم هذا الدرس القولي البليغ، الذي فيه من الحكم والمعاني والأسرار ما سوف يتجلى لنا شيء منه الآن، أحب صلى الله عليه وسلم أن يكرر عليهم الدرس نفسه بصورة عملية.
ففي صحيح البخاري رحمه الله عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: {كان يوماً جالساً بين أصحابه، فمرت جنازة -مُر من أمامهم بجنازة- فأثنى الناس على صاحب هذه الجنازة خيراً- قال أحدهم: فلان نِعْمَ الرجل، كان يشهد الصلاة مع الجماعة، قال الآخر كان محسناً إلى جيرانه، قال ثالث: كان وصولاً للرحم، وقال رابع وخامس وسادس، ويبدأ الثناء عليه من هذا وهذا وهذا- فقال صلى الله عليه وسلم: وجبت وجبت} .
وما هي إلا لحظات حتى تمر جنازة أخرى، وإذا بالمدح ينقلب ذماً قال رجل: هذه جنازة فلان بئس الرجل، كان لا يشهد الصلاة مع الجماعة، قال الآخر: كان مؤذياً لجيرانه، قال الثالث: كان قاطعاً لرحمه عاقاً لوالديه، قال رابع: كان أكّالاً لأموال الناس بالباطل، وقال خامس وسادس وسابع.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {وجبت وجبت} ويتساءل الصحابة رضي الله عنهم.
فيسأله عمر بن الخطاب يا رسول الله ما وجبت؟ فقال صلى الله عليه وسلم: {أما الأول فأثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وأما الثاني فأثنيتم عليه شراً فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في أرضه} وفي رواية أبي داود {بعضكم على بعض شهداء} وهكذا تركها صلى الله عليه وسلم كلمة خالدة، {أنتم شهداء الله في أرضه} .