قصة حرام بن ملحان

انظروا على سبيل المثال للقصة التي حكاها لنا الإمام البخاري في صحيحه، وكثيراً ما أقف عندها مستغرباً ومتعجباً.

{بعث الرسول صلى الله عليه وسلم مجموعة من أصحابه إلى أناس يدعونهم إلى الله سبحانه وتعالى، وكان من هؤلاء الصحابة: حرام بن ملحان، وهو خال أنس بن مالك، فذهبوا إلى هؤلاء القوم، فلما اقتربوا منهم، قال لهم حرام بن ملحان: دعوني أنا أذهب رسولاً إلى هؤلاء القوم طليعة لكم، فذهب إليهم، ووقف أمام زعيمهم، وهو: عامر بن الطفيل يدعوه إلى الله، ويبلغه رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويبين له، ويقرأ عليه القرآن، وبينما كان هذا الرجل -وهو حرام بن ملحان - مستغرقاً في شرح الإسلام لهذا الكافر العنيد، جاء رجل من خلفه؛ فأشار إليه هذا الكافر أن اقتل حرام بن ملحان.

وكان من عادة العرب حتى في كفرهم وجاهليتهم، أنهم لا يقتلون الرسل، وهذا عرف سائد عندهم، لكن لما صارت المعركة بين الإسلام والكفر، نسي العرب كل عاداتهم، وتقاليدهم في سبيل حرب الإسلام؛ فأشار عامر بن الطفيل -هذا الكافر العنيد- إلى رجل خلف حرام بن ملحان يأمره بأن يطعنه، واسم الرجل الطاعن: جبار بن سلمى، فجاء جبار هذا وأخذ الخنجر وسدده إلى بطن حرام بن ملحان وهو يتكلم، وفوجئ بهذا، فظهر الدم وبقوة، وانفجر من بطنه} هذا موقف -إلى الآن- طبيعي.

لكن الأمر الذي تقف عنده مستغرباً، وخاصة حين تعلم أن القصة صحيحة -كما قلت لكم- وفي صحيح البخاري، أن حرام بن ملحان لما فار الدم من جوفه استقبل الدم بيديه هكذا، حتى امتلأت يداه من الدم، ثم نثره على رأسه ووجهه، وقال: [[فزت ورب الكعبة، فزت ورب الكعبة]] سبحان الله! الدنيا والحياة هي كل شيء، هي رأس مال الناس، هذا الرجل الآن وهو يغادر الدنيا، يقول: (فزت ورب الكعبة) لماذا فاز؟ لأن الدنيا عنده ليست كل شيء، فهو مؤمن، يدرك أن الدنيا ليست إلا مرحلة إلى الآخرة، ويدرك أن الميتة التي ماتها في سبيل الله هي مهر دخوله الجنة -بإذن الله- ولذلك قال: (فزت ورب الكعبة) إلى الآن والقصة -كما قلت- لكم في البخاري.

تذكر بعض المصادر الأخرى، أن الرجل الذي طعن حرام بن ملحان وهو جبار بن سلمى، وقف مستغرباً، كيف أن هذا الرجل الآن يلفظ أنفاسه، ويغادر الدنيا، ويترك زوجته، وأولاده، بل ويترك الرسول صلى الله عليه وسلم في الدنيا، في الحياة، يغادرها إلى الآخرة، ومع ذلك يقول: فزت ورب الكعبة، لماذا؟! بماذا فاز؟! هذا الإنسان إذاً لابد أن عنده إيمان حقيقي بشيء آخر وراء هذه الدنيا، جعله يفرح بالموت في سبيل الله، وما زال هذا الشعور يلح على جبار بن سلمى القاتل حتى أسلم، وحسن إسلامه.

هذه الصورة -أيها الإخوة- لماذا حصلت؟ حصلت لأن حرام بن ملحان شأنه في ذلك شأن الصحابة كلهم، وشأن الأجيال التالية لهم: من التابعين، والمؤمنين، والعلماء، والصالحين، كانوا يعيشون الإيمان حقيقة في قلوبهم، أما نحن فهذه الصورة لا تتكرر إلا قليلاً؛ لأن الإيمان عندنا صورة وليس حقيقة، فنحن مؤمنون بأن هناك جنة وناراً، ومؤمنون بأن الإنسان لابد أن يموت، ولابد أن يكون مصيره أحد الأمرين ولا محالة، لكن الفرق: أن إيماننا صوري، وأن إيمان حرام بن ملحان حقيقي.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015