إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن دعا بدعوته وعمل بسنته إلى يوم الدين.
أيها الإخوة: لا شك أنكم في مثل هذا الوقت قد تحسون بشيء من التعب بعد ما تلقيتم العديد من الدروس والبرامج، ووفقتم بالعديد من الأعمال، ولكن جلوسكم في هذه اللحظات احتساباً وطلباً للأجر والفائدة، وحرصاً على سماع ما قد ينفعكم، لا شك أنه من الأعمال التي يتقرب بها إلى الله عز وجل.
ورب كلمة يسمعها الإنسان تكون سبباً في سعادته في الدنيا والآخرة.
أيها الإخوة: الموضوع الذي أريد أن أتحدث إليكم فيه، هو بعنوان: (تعب السعداء وتعب الأشقياء) وهناك حقيقة مهمة لا بد من التذكير بها في البداية، وهي أن الله عز وجل حين خلق الخلق كتب عليهم أنهم لا بد أن يتعبوا في هذه الدنيا، ويلقوا فيها من الكد والكدح والكبد ما يلقون، فمقل ومستكثر، يقول الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] .
ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] .
ويقول تعالى -مخاطباً آدم عليه السلام-: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117] .
فالحياة الدنيا لا بد فيها من التعب والجهد، يستوي في ذلك المؤمن والكافر، والكبير والصغير، والذكر والأنثى، والغني والفقير، وسائر طبقات الناس، كل منهم لا بد أن يكون له نصيبه من التعب، ولكن هذا التعب يتفاوت من شخص لآخر -كما سيظهر جلياً في هذا الحديث.
كما أنه من المعلوم أن الناس ينقسمون نتيجة لهذا التعب إلى قسمين: فواحد يتعب ويشقى لإسعاد نفسه، وفكاكها، وإعتاقها، وآخر يتعب ويشقى في سبيل تكبيل نفسه بالقيود، وإيباقها، وإتعاسها، وإشقائها.
وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم -لما ذكر جمع خلق الإنسان في بطن أمه وإرسال الملك- ذكر أن الملك يكتب فيما يكتب: رزق الإنسان، وأجله، وعمله وماذا بعد؟ وشقي أو سعيد.
إذاً فالإنسان لا بد أن يكون من أحد فئتين: إما من الأشقياء وإما من السعداء.
والفرق بينهما كبير، يقول الله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود:105] ليس هناك حل ثالث -أيها الإخوة- الذي لا يكون سعيداً فهو شقي، فمنهم شقي وسعيد.
ثم انظر في مصير هؤلاء وهؤلاء، قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ.
خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَأَمَّا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 106، 107، 108] .
هذا الشقاء وهذه السعادة هي نتيجة عمل الإنسان في هذه الدنيا، هذا الجهد الذي يبذله الإنسان على ظهر الأرض، هذا العمل الذي لا بد أن يبذله كل إنسان، نتيجته أن يكون المرء شقياً أو سعيداً.
وقد أبرز النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة في الحديث الآخر الذي رواه مسلم عن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الطُّهور شَطْر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد الله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك} .
ثم قال صلى الله عليه وسلم: {كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها} تأمل وتفكر في معنى هذه الكلمة الأخيرة: (كل الناس يغدو) الأصل أن كل الناس يشتغلون، ويتحركون، كل الناس يغدون، لكن نتيجة هذا الغدو، نتيجة هذا العمل، نتيجة هذا الكد تختلف، (فبائع نفسه فمعتقها) أي بالطاعات، فهذا هو الذي يغدو في طاعة الله، يتعب في عبادة الله، يصرف جهده وهمه في سبيل مرضاة الله، فهذا قد أعتق نفسه.
أما الآخر: فهو الذي يغدو في معصية الله، فيوبق نفسه بالمعاصي، ويهلكها بانتهاك الحرمات والمحرمات.
هذه القضية يجب أن تكون واضحة لدى كل فرد منا، إذا كنت تتعب في الطاعة فلا تظنن أن غيرك في المعصية آنس مرتاح، لا يبذل جهداً ولا كداً، كل ما تراه من تعب السعداء في الطاعة، فاعلم أن الأشقياء يتعبون أضعاف أضعافه في المعصية.