في حال المعصية

الحالة الثانية: التي يستغفر عقبها العبد هي: حال المعصية، وهذا هو الذي يعرفه كثير من الناس، خاصةً من عامتهم، أن الاستغفار لا يكون إلا عن ذنب، فإذا قيل لأحدهم: استغفر الله، قال: وهل أذنبت؟!، ونسي: قوله صلى الله عليه وسلم: {كل بني آدم خَطَّاء، وخير الخطائين التوابون} !.

فإن الله عز وجل أمر بالاستغفار حال الذنب، قال تعالى في وصف المتقين: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] ويقول الله عز وجل في محكم تنزيله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] .

ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم العبد، كلما أذنب أن يقبل على الله ويستغفر، في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: {كنتُ إذا حدثني أحدٌ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حديثاً استحلفته، فإذا حلف لي صدقته أي يقول: احلف بالله أنك سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام يقول هذا الكلام، يقول علي رضي الله عنه: وقد حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر!! أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من عبدٍ يذنبُ ذنباً، ثم يقوم فيتوضأ ويصلي ركعتين، ويقول: "اللهم إني أذنبتُ فاغفر لي"؛ إلا غفر الله تعالى له!!} والحديث صحيح.

انظر إلى سعة رحمة الله جلَّ وعلا: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم:32] وقال: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] وقال جلَّ وعلا: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:135] .

المهم لا ينقطع حبلك مع ذي الجلال والإكرام! لا تغفل عن هذا الإله الجليل الكريم الوهاب! تقبل عليه بقلبٍ منكسر! وتقول: "أستغفر الله" فيمحو عنك ما فَرَطَ من ذنوبك وسيئاتك وتقصيرك! تتوضأ وتصلي ركعتين، وتقبل على الله تعالى بقلبك وبدنك، وتقول: "اللهم إني ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنبي؛ إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، اللهم اغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم"، فيقول الله عز وجل برحمته، وكرمه، وجوده: {عبدي علم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، قد غفرت لك!!} وأي شيء تريد أعظم من هذا؟! أعظم من أن يتجاوز عن ذنبك، ويحفظ لك حسناتك؟ فإذا جاء يوم القيامة أتتك حسناتك كاملةً موفورة، وعرض الله عز وجل عليك سيئاتك، فقال: {يا عبدي! أنا سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم} ثم تعطى كتاب حسناتك بيمينك، أي شيء تريد بعد هذا؟! وأي فضلٍ أعظم من هذا؟! {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم:32] .

جاء الجارود بن المعلي سيد عبد القيس من البحرين إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فقال: يا أمير المؤمنين! إني رأيتُ حداً من حدود الله، حقٌ عليَّ أن أخبرك به، قال: وماذا رأيت؟ قال: رأيتُ قدامة بن مظعون يشرب الخمر، وقدامة بن مظعون! هذا أمير من الأمراء!! إنا لله وإنا إليه راجعون! أمير يشرب الخمر! فاستعظم عمر ذلك أيما استعظام! وقال: أرأيته؟! قال: والله رأيته يشرب الخمر، ومن هو قدامة بن مظعون أيضاً؟ هذا خال أولاد عمر، يعني أخو زوجته، خال عبد الله بن عمر، وخال حفصة، وقد ولاه عمر على إمارة البحرين، يشرب الخمر!! إنا لله وإنا إليه راجعون! أميرٌ يشرب الخمر!!، هل معك على هذا أحد؟ قال: نعم، اسأل أبا هريرة رضي الله عنه، فجاء بـ أبي هريرة، قال: هل رأيته؟ قال: والله يا أمير المؤمنين ما رأيته يشرب الخمر، لكنني رأيته سكران يتقيأ! قال عمر: يا أبا هريرة! لقد تنطعت في الشهادة!! -هذا تنطع، مادام يتقيأ الخمر وهو سكران، معناه أنه شرب- فلما كان من الغد، جاء الجارود وقال: يا أمير المؤمنين! أقم على هذا الرجل - قدامة بن مظعون - كتاب الله؟ فكتب إليه عمر رسالة: تعال يا قدامة!!.

فجاء قدامة إلى المدينة من الغد وجاء الجارود وقال: يا أمير المؤمنين! أقم على هذا كتاب الله، قال له عمر: يا جارود! أنت شاهد أم خصم؟ قال: لا أنا شاهد، قال: فلقد أديت شهادتك وبرئت ذمتك واسكت؟ فما سكت، فلما كان بعد أيام جاء، وقال: يا أمير المؤمنين! أقم على هذا كتاب الله، فقال عمر: والله لتسكتنَّ وإلا لأسوءنك، لأعاقبنك، وأعذبنك، ما علاقتك بالأمر؟ قد خرج من ذمتك؛ لأن الرجل - قدامة - كان مريضاً، وعمر كان يتريث حتى يشفى من مرضه ليقيم الحد عليه، فقال الجارود:والله يا عمر! ما هذا بالإنصاف، يشرب ابن عمك وتسوؤني، ما هذا بالإنصاف! فاستشار عمر المؤمنين، وقال: ماذا ترون؟ الرجل مريض: أأجلده أم أؤجل؟ قالوا: لا! نرى أن تنتظر حتى يعافى، انتظر أياماً، ثم غدا على المؤمنين، فقال: ماذا ترون معشر المؤمنين؟ قالوا: أن تنتظر حتى يعافى، قال: والله! لقد رأيت غير هذا، والله! لأن يلقى قدامة بن مظعون رَبَّه تحت السياط، أحبُّ إليَّ من أن ألقى الله وفي عنقي حدٌ ما أقمته!!.

رحمك الله يا عمر! رحمك الله يا عمر! رحمة الله على تلك العظام! رحمة الله على تلك الأبدان! وأسكن أرواحهم الجنان! والله لأن يلقى قدامة الله تعالى تحت السياط، يعني ميتاً من أثر إقامة الحد، أحب إليَّ من أن ألقى الله تعالى وفي عنقي حدٌ ما أقمته، أخشى أن أموت قبل أن يشفى!! إذاً فاجلدوه، فجاءوا بـ قدامة، قال قدامة: حتى لو شربت الخمر ما لكم حق أن تجلدوني، قال: ولم؟ قال: لأن الله تعالى يقول: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة:93] فتأول، قال عمر: لقد أخطأت التأويل، وارتكبت حداً من حدود الله، اجلدوه، فجلدوه، حتى أقاموا عليه حد الله عز وجل، أقاموا عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فغضب قدامة، وهجرَ عمر، وأصبح لا يكلمه، فهجره عمر وأعرض عنه، وحجَّا لا يكلم أحدهما الآخر.

فلما رجعوا نام عمر نومة، ثم استيقظ، وقال: أين قدامة؟ أين قدامة بن مظعون؟ قالوا: ما تريدُ به يا أمير المؤمنين؟ قال: لقد أتاني في منامي آتٍ وقال لي: صالح أخاك قدامة، صالح أخاك قدامة بن مظعون، صالحه، فأبى قدامة أن يأتي، فكتب إليه عمر: من عبد الله عمر بن الخطاب إلى قدامة بن مظعون، السلام على من اتبع الهدى.

أما بعد: يقول الله عز وجل: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر:3] ذكَّره بهذه الآية، وأمره بالتوبة إلى الله عز وجل، من ذنوبه ومعاصيه، وأمره أن يتوب إلى الله عز وجل، فأ صلح ما بينه وبينه.

المهم ما أحوج المذنب العاصي إلى أن يُذَكَّر برحمة الله عز وجل، ويُحَثَّ على التوبة إلى الله تعالى، ويؤمر بالإقلاع عن ذنبه، والتوجه إلى ربه، والندم على ما فرط منه، وأن يعمل على أن يستوفي شروط التوبة المعروفة، لعل الله عز وجل أن يختم له بخير.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015