ولكن ننتقل إلى الشعوب الإسلامية: هناك أولاً: أعداد ليست بالقليلة من الشباب المسلم هَبَّتْ للنفير وذهبت تجاهد هناك، والقوات المسلمة الخاصة -التي كُونت حديثاً- قوات مسلمة تزيد على خمسة آلاف، يشترطون فيمن ينتمي إليها أن يكون محافظاً على الصلوات، وأن يكون متجنباً للمحرمات، وبعضهم أشترط حتى ألا يكون مدخناً، وتقام فيها أحكام الإسلام بصورة جيدة، وغالب القادة فيها من خريجي الجامعات الإسلامية، ومن أصحاب العقائد السليمة الصحيحة بحمد الله تعالى.
وقد حققت هذه القوات تقدماً طيباً، وانضم إليها أعداد من القوات الحكومية العامة، وحتى بعض الذين لم ينضموا إليها هم معها في الحقيقة، وهناك مجموعة من القادة لهم تأثير كبير.
وأضرب لك مثلاً بـ أبي عبد العزيز الذي تصوره الصحف الغربية -كما تصور- بطلاً من أبطال الأساطير، وقد تحدثت عنه، وكيف أنه يقيم هناك، وهو أب لتسعة أطفال، هو من هذه البلاد من الحجاز، ربما كان بعد الأربعين من عمره، تتحدث عنه كيف كسب مودتهم ومحبتهم وأثَّر فيهم، وعلى رغم مهماته في القتال والجهاد وبطولاته، إلا أنه يجد وقتاً لتعليم أطفال البوسنة القرآن الكريم، وتدريبهم وتربيتهم على الإسلام، وإذا مضى بسيارته اللاندروفر على الشارع، خرج الرجال والنساء والأطفال على الأبواب والشبابيك والأسطح، يلوحون له ويشيرون إليه وينظرون إليه ويحبونه ويفدونه بأنفسهم.
فهذا الوصف الأسطوري لهذا الرجل وأعداد كبيرة من الشباب المقيمين هناك هو جانب من الوعي الشعبي الإسلامي المتنامي في كل بلاد، والكثيرون الكثيرون يتساءلون عن إمكانية الذهاب، لكن من المؤسف أن هناك صعوبات لعل من آخرها صعوبة عدم إمكانية النزول في مطار كرواتيا، ومن ثم المسير إلى أرض البوسنة والهرسك، فضلاً عن صعوبات أخرى لا مجال للحديث عنها، وهؤلاء الإخوة المجاهدون لا شك أن لهم دوراً كبيراً في رفع معنوية المسلمين، وإشعارهم بأن الأمة الإسلامية تقف إلى جوارهم، وبالمقابل لهم دور كبير في المعارك، يحقق انتصارات طيبة ومكاسب كبيرة.
ولم يكن في الوقت متسع لأذكر شيئاً منها، لكن يكفي أن تعلموا أن المسلمين حرروا مواقع كبيرة واستطاعوا أن يحرروا طرقاً عديدة للإمدادات، واستطاعوا أن يقطعوا بعض طرق الإمدادات الصربية، واستطاعوا أن يأسروا على ما يزيد عن خمسة آلاف صربي، وضربوا بعض المطارات، وهناك بعض النجاحات التي لا نريد أن نبالغ فيها، ولكن نريد أن نذكرها حتى تعتدل الصورة.
ولا نستمر في التشاؤم، فهذا جانب، والغرب يركز على هذه الأقلية المسلمة، ويتكلم عنها بشكل صريح، وأجريت معهم مقابلات في الصحف الغربية باعتبار أنهم خطر أصولي يهدد أوروبا، وأن هذا يؤكد فعلاً أن الرئيس البسنوي المسلم يسعى إلى إقامة دولة إسلامية أصولية كما يقولون ويعبرون، ولو أن المسلمين كانوا أقوى وأشجع وأفضل وأسرع لاستطاعوا أن يغيروا مجري الأحداث، وأن يجعلوا الغرب يتدخل لصالح المسلمين ليقطع الطريق على تنامي المد الإسلامي، وكثرة المسلمين الذين يأتون إلى هناك.
نموذج أو مثال آخر: قضية التبرعات؛ فإن الأمة الإسلامية فيها خير كثير، وهذه الأموال التي أصبحت نهراً يجري إلى البوسنة والهرسك آية صدق على ذلك، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل الصدقة دليلاً على صدق الإيمان حيث قال: {والصدقة برهان} فالمسلمون اليوم يبذلون أموالهم، وأصحاب رؤوس الأموال الضخمة يبذلون الملايين وعشرات الملايين {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق:7] .
أقول لكم هذا النموذج الذي هو من آخر ما قرأت، قرأته هذا اليوم: أن شاباً مسلماً من أبو ظبي لم يجد ما ينفق ولا ما يتبرع به، فذهب إلى مكان التبرع بالدم، وهم إذا تبرع الإنسان بالدم يعطونه مقابل ذلك مائتي درهم، فتبرع ببعض دمه من أجل أن يأخذ مائتي درهم، ليقوم بتسليمها بعد ذلك إلى اللجنة المشتركة لاستقبال التبرعات إلى البوسنة والهرسك!! أمة فيها مثل هؤلاء الذين يتبرعون بدمائهم إذا عجز عن إراقة دمه في ميدان المعارك، فعلى الأقل يتبرع بشيء منه ويأخذ مقابله ليدفعه إلى المسلمين، هذا نموذج، والأموال بحمد الله تذهب إلى هناك بشكل جيد، وهناك إغاثة ومساعدات إنسانية، بل هناك توصيل ما يحتاجه المسلمون من آلات الحرب وعدتها بشكل لا بأس به، وهناك تعاطف معنوي كبير من المسلمين مع البوسنويين.
ويظهر هذا التعاطف معهم في الحديث عن قضيتهم وفي تناولها، وعلى الأقل التوجع على ما يصيبهم، وفي الدعوات الصادقة التي قد تصادف باباً مفتوحاً، وما يدريك أن ينصر المسلمون بدعوة صادقة، كما قال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري: {أبغوني ضعفاءكم، هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم بدعائهم واستنصارهم؟!} وأنا قلت أكثر من مرة أمة قوامها ألف مليون إنسان ليس فيهم واحد لو أقسم على الله لأبره؟! ولو سأل الله تعالى لأعطاه؟! لا بد أن فيها ذلك، ولو أننا حشدنا الناس بالدعاء الصادق والابتهال إلى الله والإلحاح في المسألة، لوجدنا في ذلك خيراً كثيراً ولا تقول: لعل الله فقط ينصر المسلمين، ادع الله أن ينصر الإسلام في كل مكان، وأن تكون هذه الشرارة التي أوقدها الكفار سبيلاً إلى نار تحرقهم عن آخرهم، وأن تكون فاتحة نصر وخير وعز للإسلام والمسلمين.
يبقي السؤال في هذا ما السبب في أن هذا التعاطف الإسلامي لم يكن على مستوى الأحداث، ولم يصل إلى حد تحقيق نصر واضح؟! فأقول: السبب الرئيس هو أن العالم الإسلامي اليوم عالم يعتبر تابعاً للعالم الغربي، وقد عادت إليه عصور الوصاية والاستعمار بشكل أو بآخر، فأصبح الغرب يتصرف كما لو كان مهيمناً على الأرض كلها، خاصة بعد سقوط قوة روسيا، ولذلك نحن ننتظر ونتربص أن تنكفئ أمريكا على ذاتها؛ فإن أمريكا الآن تمد ذراعيها في العالم كله وتتدخل في كل حقير وشريف.
تدخلت في السودان وقالت لحكومة السودان: لماذا تمدون باللحم إلى العراق وشعبكم جائع محتاج؟ مع أن اللحم الذي بعثوا به كان نتيجة صفقة متفق عليها حتى مع الأمم المتحدة نفسها فما دخلهم في هذا؟ وتدخلت في أفغانستان، وقالت علانيةً: إننا لن نسمح بوصول حكمتيار إلى الحكم وسنسعى بكل وسيلة إلى منع وصوله، وإلى منع أن يقوم هو بإفشال ما نسميه بالعملية السياسية، وتدخلت في أمور داخلية خاصة بل هي تخطط لأبعد من ذلك!! ولهذا أود أن أقول لكم أن هناك الآن اتجاهاً قوياً داخل أمريكا ذاتها، وهو يتنامى ويزداد أنه لا شأن لنا بالعالم الخارجي، ينبغي أن نهتم بدولتنا ذاتها -بأمريكا نفسها- بمشاكلها الاقتصادية والسياسية والعرقية والاجتماعية والجرائم والقضايا الأخلاقية وغير ذلك، وعلينا أن نخفض ونقلل من تدخلنا ومشاركتنا ومساعداتنا للعالم، وهذا لا شك سوف يقلل من هيمنة أمريكا على العالم، وتسلطها وتدخلها بالقرارات، وبالتالي سوف يعطي الأمم الإسلامية فرصة أكبر أن تثبت وجودها، وأن تحقق إسلامها على كافة المستويات، سياسيها واجتماعيها واقتصاديها، وأن تحقق معنى الإخاء الإسلامي في مناصرة المسلمين في كل مكان.
وهذا تقرير عن هذا الموضوع -وهو موضوع انكفاء أمريكا على ذاتها لا يتسع المجال لقراءته.