الوسيلة الثانية: الاعتماد على الرواة الثقات

وذلك لأن الإنسان قد لا يتمكن أن يتثبت من كل شيء بنفسه، قد يسمع عن أخبار بعيدة، وعلماء بعيدين، وعن أحداث في مناطق نائية وفي بلاد نائية لا يتمكن من الوقوف عليها بنفسه، وهنا ينتقل إلى الخطوة الثانية، وهي أن يعتمد على الرواة الثقات، الأوفياء، الأملياء، كما قال الأولون: [[إن كان صاحبك ملياً فخذ عنه]] إن كان ملياً فخذ عنه، أما إن كان إنسان مثل الريشة في مهب الريح فهذا الإنسان دعه وما جاء به.

فالوسيلة الثانية: هي الأخذ عن الثقات: اجعل رجال أسانيدك ثقات مأمونين، معروفين بالصدق والعدالة.

وهنا تأتي مشكلة.

ما معنى الثقات؟ بعض الناس لو وجد إنساناً صالحاً، مصلياً، متعبداً، ملتحياً، ملتزماً بالسنة، قال: هذا رجل صالح ظاهره العدالة.

لا! لا إذا كانت أموراً مهمة فلا تعتمد على مجرد ذلك، ولذلك قبل قليل ذكرت لكم كيف أن السلف كانوا يتقون الرواية عن بعض الصالحين، وذلك لعدم ثقتهم، لا لأنه صالح، لكنه ليس بثقة، مثلا: ذكر ابن عيينة أن شيخاً صالحاً كان بالكوفة يقول: كان عنده أربعة عشر حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث بها، قال: فزادت مع الوقت، زادت هذه الأحاديث حتى صارت أربعين، خمسين، ستين، وقال: فجاءه رجل قال: من أين لك هذه الأحاديث التي زادت؟ قال: هذا من رزق الله!! رجل مسكين يلقن أحاديث تدخل عليه، فيقبلها ويرويها، وهو صالح لكنه مغفل.

والناس -الصالحون وغير الصالحين:- ثلاثة أصناف: الصنف الأول: الكذابون: وهذا قد يكون فيه تعبد من جهة، لكنه متسرع في الكلام، وربما يكون عنده معصية أو كبيرة الكذب، لأنه معروف أن العبد قد يجتمع فيه نفاق وإيمان، قد يكون زاهداً في الدنيا، لكنه يكذب، قد يقع هذا، وقد يكون إنسان طالباً للعلم، ولكنه قد يكذب أيضا، وهذا -مع الأسف- موجود، وإن كان -بحمد الله- قليلاً، لكن الناس منهم الكذابون الذين يختلقون الكلام، والذي يكذب، ويختلق الكلام، وهذا كما قال الشاعر: لي حيلة فيمن ينم وليس في الكذاب حيلة من كان يخلق ما يقول فحيلتي فيه قليلة الصنف الثاني: مغفلون: وهؤلاء المغفلون لا يختلقون الكلام ويكْذِبُونه، لكنهم أصابتهم غفلة، فصاروا يروون عن كل من دب ودرج، يُلَقَّنُون الأحاديث فيصدقونها، وإذا رأوا إنساناً، قالوا: حدثنا ثقة، وهو ليس بثقة!! وقد يخدعهم كثير من الناس، وقد رأيت كثيراً من القصص، والأخبار يتداولها الوعاظ، وتشيع عند الناس ويقول بعضهم: حدثني ثقة، وإذا تثبتت وجدت أن هذا المتحدث كذاب كبير! وقد وقفت بنفسي على حالات من هذا القبيل، اغتر بها بعض الدعاة والصالحين، من بعض الإخوة وصدقوها، لأن الذي تحدث بها شخص ظاهره التدين، وهو ملتحٍ، ومن الصالحين في الظاهر، لكنه يختلق الأحداث، ويروي الأباطيل والأكاذيب والموضوعات والأشياء التي فيها تهويل، وبعض الأشياء التي رواها عجز عقلي عن تصديقها؛ لأنها أشياء لا يدل عليها شرع، ولا عقل، وما ذكرت في التأريخ أنها حدثت، وهو يرويها وقع كذا، ووقع كذا، ووقع كذا، يقول: وقع أمس ووقع اليوم، فمن شدة كذب هذه الأشياء تأبَّي عقلي على تصديقها، وتبين بعد فترة أن هذا الرجل يختلق الكلام ويفتريه، ويُغرَّ به بعض الصالحين الذين ينخدعون بمظهره ومن تاب، تاب الله عليه.

لكن المقصود أن من الناس كذابون، ومن الناس مغفلون يصدقون الكذابين، فإذا رأوا إنساناً ظاهره الصلاح قبلوا عنه كل ما قال، دون أن يتثبتوا أو يمسوه، أو يعرفوا إن كان هذا الرجل فعلاً يضبط النقل والقول، أم هو إنسان ليس كذلك.

ومنهم صنف ثالث: وهم المتعجلون: والمتعجلون هؤلاء ليسوا كذابين، ولكنهم قد يروون الأمور على غير ما هي، فمثلاً قد يسمع كلاماً ونظراً لأنه متعجل فهم بعض الكلام، أو سمع أوله ولم يسمعه كله، فصار ينقله! أو رأى شيئاً فظنه على غير ما هو عليه، مثلاً: إنسان رأى في الشارع اجتماعاً، ورأى سيارات المرور والشرط، فجاء وقال: إنه حدث في مكان كذا وكذا حادث تصادم، ولما ذهبت وجدت أنه ليس هناك حادث تصادم لماذا؟ ليس هذا الإنسان اختلق! لكن هو رأى الزحام، والتجمع، والسيارات، فظن أنه حادث سيارة، وكان في الواقع أن هذا لسبب آخر وليس صداماً، فهو تعجل في خطف الأشياء، فهو من الخطافين الذين يروون بعض الأشياء وينقلونها دون أن يتثبتوا منها، ومثل هؤلاء يجب عدم التعجل في الأخذ عنهم.

أذكر أنني شخصيا وقفت، وبلوت أشياء من هذا القبيل، خذوا على سبيل الأمثلة: قال لي إنسان مثلاً أنه في إذاعة كذا، وكذا أذيع ونقل قصة مؤداها كذا وكذا، وفي الواقع أن هذه القصة من الغريب جداً أن تذاع في تلك الإذاعة مهما كان هذا الأمر فيها غرابة، فأنا أعلم أن الذي حدثني ليس بكذاب، لكني عرفت أنه سمع إذاعة أخرى، فظنها الإذاعة التي يقول، وكان الخطأ منه في معرفة أي الإذاعات التي سمع منها هذا الكلام الخطير الذي نقله.

مثل آخر: شخص قال لك: إنه سمع في إذاعة ما مثلاً إنه هناك أناس يقرءون القرآن على الموسيقي! هذا أمر عظيم أن يقع في المسلمين؛ لأن الكفار لا يفعلونه فضلاً عن المسلمين، وإن كان وقع في إحدى الإذاعات مرة فهو من الأخطاء التي نادراً ما تقع، لكن هذا الإنسان يقول أنا سمعت! فتبين أن هذا الإنسان تتداخل عنده الموجات، فيسمع إذاعتين في وقت واحد، ويقع عنده اللبس بسبب ذلك.

فلا تظن أنه إذا كان الذي أمامك رجل ثقة، وصدوق، معناه أن كل ما يحدثك به صحيح، لا! حاول أن تتثبت، وتتأكد، وتتحرى، وخاصة إذا كان الأمر الذي يحدثك به فيه شيء من الغرابة، والنكارة والمخالفة للمألوف والمعتاد، فحينئذ يجب أن تتحرى، وتتثبت أكثرَ، وأكثرَ.

الأمر الثالث: أنا قلت لكم ثلاث نقاط في الوسائل: النقطة الأولي -التي ذكرت- هي الوقوف بنفسك على الشيء.

النقطة الثانية: ألا تأخذ إلا من الثقات الأثبات المتثبتين.

النقطة الثالثة: هي التوقف.

لم يتبين لك الأمر، توقف حتى يستبين لك، وإن كان شراً، فعليك أن تقول: هذا بهتان عظيم، وتنكره ما دام يتعلق بأخيك المسلم الذي تظن به الخير، حتى يثبت لك خلاف ذلك.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015