قوله تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)

يقول الله عز وجل: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] وقوله: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36] أي لا تقل ما ليس لك به علم، لا ترم أحداً بما ليس لك به علم، وفَسَّرَهُ بعض السلف بقول الزور، وشهادة الزور.

وفسره آخرون بالفرية، وكل هذه لا تعدو أن تكون أمثلةً لقفو الإنسان ما ليس له به علم، فإن الإنسان إذا قفا ما ليس له به علم، قال ما لا يعلم وأفتى بما لا يعلم، وقال الزور وشهد الزور، وافترى، وظلم، وكذب، وكل هذا مما ليس له به علم.

ولهذا قال قتادة: [[لا تقل سمعت ولم تسمع، ولا تقل رأيت ولم تر، فإن الله تعالى سائلك عن ذلك كله]] رواه ابن جرير، وابن المنذر، وكذلك روى ابن أبي حاتم عن عمرو بن قيس رضي الله عنه أنه قال: [[يقال للأذن يوم القيامة: هل سمعتِ؟ ويقال للعين يوم القيامة هل رأيتِ؟ ويقال للفؤاد يوم القيامة مثل ذلك!]] إذاً: الله سبحانه وتعالى ينهانا عن أن نقفو ما ليس لنا به علم، ويبين أن السمع مسئول عنه، يُسأل السمع فيقال للأذن: هل سمعتِ؟ ويسأل الإنسان نفسه هل سمعت؟ والبصر مسئول ومسئول عنه أيضاً يقال: هل رأيت؟ ويقال للإنسان هل رأيت؟ ويقال للعين: هل رأيتِ؟، وكذلك الفؤاد وهو القلب فهو مسئول ومسئول عنه {كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] ولهذا ذكر الله عز وجل في مواضع من القرآن الكريم أن الأعضاء تسأل يوم القيامة وتنطق، حتى اللسان، الإنسان الآن ينطق بلسانه، فيوم القيامة يُسأل، فيقال: أما قلت كذا، وكذا؟ فينكر، فيختم الله تعالى على فمه، ويأمر اللسان -هذه اللحمة- أن تتكلم بنفسها، ليس كلام الإنسان الذي يخرج من حلقه، واللسان وسيلة فيه، وإنما ينطق اللسان ذاته فَيُقِرُ، فتشهد عليهم ألسنتهم، يقر اللسان بما قاله الإنسان وبما نطق به، وتقر العين بما فعلت، وتقر الأذن بما فعلت، وتقر الأيدي والأرجل، كل هذه الأشياء تشهد على الإنسان كما ورد في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم ضحك فقالوا: يا رسول الله ممَّ ضحكت؟ قال: {ضحكت من مجادلة العبد ربه يقول يوم القيامة: يا رب إني لا أقبل علي شهيداً إلا من نفسي، أي لا يقبل حتى الملائكة، فيأمر الله عز وجل فيختم على فيه، ويأمر جوارحه فتنطق بما فعل من شر} فتتكلم اليد، والرجل، واللسان، والأذن، والعين، وغيرها من الجوارح قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] .

وكذلك يقول الله عز وجل في موضع آخر من كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] ويأمرنا الله عز وجل بالتبين {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] هكذا قرأها الجمهور (فتبينوا) وقرأ حمزة والكسائي (فتثبتوا) {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فتثبتوا} [الحجرات:6] والتثبت والتبين هما بمعنى واحد، وهذا أمر من الله عز وجل للإنسان أن يتبين.

أي يطلب البيان ويتثبت أي لا يتكلم إلا بأمر ثابت واضح لا إشكال فيه، وخاصة إن كان الذي جاء بالخبر فاسقاً، {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] ثم علل ذلك بقوله: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً} [الحجرات:6] أي لئلا تصيبوا قوماً بجهالة، {فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] فربما إنسان بلغه عن أخ مسلم خبر فقال به، وأصبح يتكلم في المجالس يقول: فلان فعل كذا، وفعل كذا، وفعل كذا.

بعد فترة تبين لهذا المتحدث أن ما كان يقوله عن فلان غير صحيح فهنا هو نفسه أصبح من النادمين، لأنه عرف أنه وقع في عرض أخيه المسلم، واستطال في عرضه بغير حق، وهو أمر لا يمكن تداركه، ولذلك يقول القائل: يموت الفتى من عثرة بلسانه وليس يموت المرء من عثرة الرِّجل فعثرته بالقول تودي برأسه وعثرته بالرجل تبرا على مهل فعثرة القدم، قد يعثر الإنسان فيسقط فتبرأ، أي تشفى بعد شهر أو شهرين، لكن عثرة اللسان قد تكون السبب في حَزِّ رأسه، وجرح اللسان لا يمكن تداركه، لأن الكلام إذا خرج من اللسان لا يمكن إرجاعه! ولذلك قال الأولون كما نقل عن عمر رضي الله عنه وغيره، قالوا: [[من كتم سره كان الخيار بيده]] يعني إذا لم تتعجل في الكلام، مثلاً: بلغك عن فلان من الناس أنه قال: كذا وكذا، فأنت صدقت هذا الكلام، لكن قلت: لا داعي أن أتكلم الآن أصبر أعتبر هذا سراً وأكتمه.

بعد ذلك بإمكانك في أي وقت تشاء أن تقوله، ولو سكتَّ شهراً، أو شهرين تستطيع بعد ذلك أن تقول فلان قال: كذا.

لكن لو بلغك عن فلان قولٌ، ثم تسرعت في إفاضته، ونشره والحديث عنه؛ فإنه لا يمكن بعد ذلك إرجاعه، [[من كتم سره كان الخيار بيده]] فإذا خرجت الكلمة من الفم لا يمكن إرجاعها، فهي مثل الرصاصة، الإنسان إذا وجه إلى إنسان بندقية، ثم حرك زنادها فانطلقت منها رصاصة صوب شخص معين، قد يندم الإنسان على ذلك، ولكن لا يمكن إرجاعها لأنها وصلت إلى مستقرها وأصابت المقتل الذي وجهت إليه، وكانت سبباً في هلاك هذا الشخص، وفي هلاك مطلقها أيضاً دنيا وآخرة، هلاكه دنيا بالقصاص منه، وهلاكه أخرى بأنه يلقى الله عز وجل بدم أخيه.

فاعتبر أن الكلمة التي تخرج من فمك مثل الرصاصة، التي إن أمسكها الإنسان استطاع أن يطلقها في الوقت المناسب، وإن أطلقها بدون تبصر ولا تثبت ولا تبين، فإنه لا يمكن أن ترجع بحال من الأحوال، فالله عز وجل يقول: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ} [الحجرات:6] .

وقد ذكر أهل السير والتفسير والحديث كما رواه الطبراني، والإمام أحمد، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وغيرهم ويقول السيوطي في الدر المنثور: بسند جيد عن الحارث بن ضرار الخزاعي رضي الله عنه {أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: فعرض عليَّ الإسلام فأسلمت، ثم عرض عليَّ الزكاة، فقلت: يا رسول الله، أذهب إلى قومي، فأدعوهم إلى الله عز وجل فمن آمن منهم أخذت زكاته، ويأتيني رسولك في إبان كذا وكذا} ضرب له موعداً محدداً {تبعث إلي فيه رجلاً يأخذ مني الزكاة.

فجاء الحارث رضي الله عنه إلى قومه فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا، ثم جمع منهم الزكاة في الإبّان الذي حدده لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وجلسوا ينتظرون رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم، فتأخر عن إبّانه.

فقال الحارث بن ضرار الخزاعي لقومه: تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد واعدني وقت كذا، وكذا، وليس من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلف في الوعد، وخاف الحارث أن يكون أصابه سخطة من الله تعالى، أو من رسوله صلى الله عليه وسلم} خشي أن يكون الله سخط عليه فأنزل فيه قرآناً، أو سخط عليه الرسول صلى الله عليه وسلم {فجمع الزكاة، وخرج بقومه، فلما خرج لقي جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم معهم السلاح، فلما غشيهم قال: ما الذي جاء بكم؟! قالوا: جئنا إليك.

قال: وما ذاك؟! قالوا: رددت رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأردت قتله، وَمَنَعْتَ الزكاة، قال: ما فعلت! ثم جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فوجد أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد بعث إليه الوليد بن عقبة مصدقاً} أي يأخذ الصدقة، وهو ابن عقبة بن أبي معيط، فـ الوليد بن عقبة جاء للحارث بن ضرار الخزاعي وقومه {فلما أقبل كان بينه وبينهم شيء في الجاهلية، أو كأنه هابهم، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنه قد أراد قتلي، ومنع الزكاة فبعث الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الجيش، وأمرهم بالتثبت من أمر الحارث وقومه، ثم نزل قول الله عز وجل ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا)) [الحجرات:6] } وهذا الحديث في قصة الوليد بن عقبة، وأنه ادعى أن الحارث بن ضرار الخزاعي أراد قتله، ومنع الزكاة، هذا الحديث، قال فيه السيوطي: بسند جيد كما في الدر المنثور، وجاء له شواهد كثيرة جداً، عن جماعة من الصحابة والتابعين، منها عن علقمة بن ناجية الخزاعي، ومنها عن جابر، ومنها عن أم سلمة، ومنها عن ابن عباس رضي الله عنه، ومنها عن جماعة من التابعين منهم مجاهد، وعكرمة، وقتادة وغيرهم حتى قال الإمام الحافظ ابن عبد البر في الاستيعاب قال: لا خلاف بين أهل التأويل فيما أعلم أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين ذهب لأخذ صدقات الحارث بن ضرار الخزاعي وقومه.

وإن كان بعض المعاصرين حاول أن ينكر هذه القصة، كما فعل الشيخ محب الدين الخطيب في تعليقاته على كتاب العواصم من القواصم، لكن هذه القصة أشهر من أن ترد أو تنكر.

صحيح أن فيها رمي الوليد بن عقبة بأنه فاسق، كما قال الله عز وجل: ((إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] لكن لا يمنع أن يكون حدث منه فسق، ثم تاب منه هذا على وجه، مع أن المشهور عن ا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015