من ضمن هذه الحقيقة القرآنية العظيمة، تأتي قصة طالوت وجالوت، التي ذكرها الله تعالى في سورة البقرة {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:246] وفيها عظة وعبرة، وفي آخرها: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249] وقال: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251] .
لقد رأينا في هذه القصة كيف انتصرت القلة المؤمنة على الكثرة الكافرة بإذن الله، وكيف قتل داود جالوت، وكيف ورث الله هؤلاء المؤمنين الملك والحكمة، ونصرهم على عدوهم، ولقد رأينا في هذه القصة التي ذكرها الله تعالى في كتابه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42] أن هؤلاء القلة صبروا على الامتحان والابتلاء، فلما عُرِضَ هذا النهر العذب الفرات {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} [البقرة:249] نهرٌ عذبٌ حلوٌ فراتٌ، وهم عطاش محتاجون إلى الماء، ومع ذلك يقع الاختبار {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة:249] .
إنها شربة واحدة باليد، حتى يذوقوا حلاوته، فتتعلق به نفوسهم ليتم الاختبار والابتلاء، ويعلم الصادق الجاد المؤمن الممتثل لأمر الله، من ذلك الإنسان الذي إذا بان له الطمع أسرع إليه، وإذا عرضت له الدنيا ركض وراءها، وترك أمر الله عز وجل: {إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا} [البقرة:249] قال أولئك الذين شربوا وأكثروا وتجاوزوا: {لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ} [البقرة:249] والذين صبروا في الاختبار، والذين لم يشربوا من النهر، قالوا كما ذكر الله عز وجل قالوا: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249] .
فثبتوا وصبروا، وكتب الله تعالى النصر ليس لهؤلاء الكثرة الذين شربوا، بل لتلك القلة التي صبرت ونجحت في الاختبار، وهذا درس ذكره الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ولأصحابه الذين كانوا يقاتلون معه في بدر، وأحد، والخندق، وحنين، وغيرها، ليعلموا أن النصر إنما يكون بطاعة الله تعالى وبترك معاصيه، والابتعاد حتى عن الشبهات والمكروهات.