وشرع الله تعالى الصيام حتى يتخلص القلب ويتخفف من فضول الطعام والشراب والشهوة؛ لأن الإنسان في نهار رمضان يمتنع عن الأكل والشرب والجماع من الفجر إلى غروب الشمس، وهذا امتناع معتدل ليس فيه ما في الأديان الأخرى والمذاهب الأرضية الباطلة من الغلو، كما يفعل بعضهم فيصومون شهراً كاملاً، وبعضهم يجورون على الجسد فيمنعونه الأكل والشراب والنوم والطعام على مدى أيام وربما شهور، وبعضهم قد يدفنونه في الأرض فيجورون على أجسادهم، فليس هذا في الإسلام بل فيه حِمية معتدلة، هذا بالنسبة للصيام.
ثم شرع الله تعالى الاعتكاف؛ حتى يتخلص الجسد والقلب من فضول صحبة الناس التي لا خير فيها، والتي قد تزيد فتصبح مثل ما إذا أصيب الإنسان بالتخمة من كثرة الطعام والشراب، ولذلك قال الشاعر: عدوك في صديقك مستفاد فلا تستكثرن من الصحاب فإن الداء أكثر ما تراه يكون من الطعام أو الشراب فكما أن الإنسان إذا أكثر من الطعام والشراب أصيب بالتخمة، كذلك إذا أكثر من الصحبة والمجالسة والاختلاط بالناس أصيب بالتخمة من جراء ذلك، فمرض القلب واعتل، فكان الاعتكاف حِمية للقلب من كثرة الصحبة والاختلاط بالناس.
ثم فيه حِمية -أيضاً- من كثرة الكلام، لأن الإنسان غالباً ما يعتكف بمفرده، فيقبل على الله تعالى بالصيام والقيام وقراءة القرآن وما أشبه ذلك.
وكذلك فيه حِمية من كثرة النوم، فإن الإنسان إنما اعتكف ليعبد الله تعالى، ولم يعتكف حتى ينام في المسجد، فيكون في ذلك من الإقبال واجتماع القلب على الله تعالى ما ليس في غيره.
ولذلك استحب السلف الجمع بين الصيام والاعتكاف، حتى قال ابن القيم رحمه الله: إن جمهور السلف على أنه لا اعتكاف إلا بصوم.
بل صح هذا عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: [[لا اعتكاف إلا بصوم]] فرأوا أن الاعتكاف لا يصح إلا بالصيام، وهذا مذهب جماعة من الأئمة؛ وذلك حتى يجمع للإنسان بين الصيام وبين الاعتكاف فيحصل فضائل هذا وفضائل ذاك.
وقال الإمام ابن القيم: إنه لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اعتكف إلا وهو صائم.
وهذا الذي قاله رحمه الله فيه بعض النظر كما سيأتي.
فقد نقل أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف في شوال، ولم يثبت أنه كان صائماً في هذه الأيام التي اعتكفها، ولا أنه غير صائم، فالأمر على ذلك غير ظاهر.
ولكن الأصح أن يقال: يستحب للإنسان ألا يعتكف إلا بصيام.
هذه إشارة إلى بعض حكمة مشروعية الاعتكاف وجمع الصيام معه، كما هو مذهب جماهير السلف كما نقله ابن القيم، وثبت عن عمر وابن عباس وعائشة رضى الله عنهم، وبه قال مالك والأوزاعي والإمام أبو حنيفة، واختلف النقل في ذلك عن الإمام أحمد والشافعي.