إطلالة على النبي صلى الله عليه وسلم في معتكفه

إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف؛ ولذلك يجدر بنا أن نطل إطلالة سريعة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في معتكفه، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان يلتمس ليلة القدر، ثم اعتكف العشر الأوسط من رمضان، فلما خرج الناس من معتكفهم قام النبي صلى الله عليه وسلم فخطب بهم، وقال: {إني أريت ليلة القدر في العشر الأواخر، وإني أريت صبيحتها كأني أسجد على ماء وطين، فمن كان معتكفاً معي فليرجع إلى معتكفه} .

والحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري، فرجع الناس إلى معتكفهم -أي: اعتكفوا عشرة أيام أخرى، وهي العشر الأواخر من رمضان-.

قال أبو سعيد: وما نرى في السماء من قزعة حتى كان تلك الليلة، فجاءت سحابة فأمطرت، وكان سقف المسجد من جريد النخل، فسال سقف المسجد، قال: ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد على ماء وطين، والتفت إلينا وإن أثر الطين على جبهته وأنفه -عليه الصلاة والسلام- فتحققت نبوءته صلى الله عليه وسلم بذلك، وتبين أن تلك الليلة كانت ليلة القدر، وكانت ليلة إحدى وعشرين، فاعتكف صلى الله عليه وسلم العشر الأواخر من رمضان، ثم حافظ بعد ذلك على الاعتكاف في العشر الأواخر، كما في الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها قالت: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل، ثم اعتكف أزواجه من بعده} .

وفي العام الذي قبض فيه صلى الله عليه وسلم اعتكف -أيضاً- عشرين يوماً، أي: اعتكف العشر الأوسط مع العشر الأواخر، وذلك لأسباب: منها -والله تعالى أعلم-: أن جبريل عارضه القرآن في تلك السنة مرتين -كما سبق- فناسب أن يعتكف النبي صلى الله عليه وسلم عشرين يوماً حتى يتمكن من معارضة جبريل بالقرآن كله مرتين.

ومنها: أن في ذلك مضاعفة العمل الصالح؛ حينما أحس عليه الصلاة والسلام بقرب أجله ودنو وفاته؛ ولهذا قال الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1-3] فالله سبحانه وتعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يكثر من التسبيح والاستغفار في آخر عمره.

وهكذا كان يفعل صلى الله عليه وسلم، يكثر من أن يقول في ركوعه، وسجوده: {سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي} يتأول القرآن عليه الصلاة والسلام، فاعتكف عشرين يوماً في السنة التي قبض فيها صلى الله عليه وسلم، لمناسبة قرب وفاته ليضاعف العمل الصالح.

وقد يكون من أسرار مضاعفة اعتكافه: أن يكون ذلك شكراً لله عز وجل على ما أنعم به عليه من هذه الأعمال الصالحة؛ من الجهاد والتعليم، والصيام والقيام وإنزال القرآن، وغير ذلك من الأعمال التي امتن الله تبارك وتعالى بها عليه.

وكان عليه الصلاة والسلام يدخل معتكفه قبل غروب الشمس من الأيام التي يريد أن يعتكفها، فإذا أراد أن يعتكف العشر الأواسط -مثلاً- دخل المعتكف قبل غروب الشمس من ليلة الحادي عشر، وإذا أراد أن يعتكف العشر الأواخر دخل قبل غروب الشمس من ليلة الحادي والعشرين.

وذلك لأن العشر الأواخر تبدأ من غروب شمس يوم عشرين، أما ما ثبت عنه في الصحيح: {أنه صلى الله عليه وسلم صلى الفجر ثم دخل معتكفه} فإنما المقصود أنه دخل المكان الخاص في المسجد حيث كان يعتكف في غرفة، كما ورد أنه اعتكف في مكان خاص، -في قبة تركية كما جاء في بعض الروايات- فكان يدخل هذا المكان الخاص، وإلا فقد كان في المسجد منذ غروب الشمس.

ومن طريف ما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في المعتكف ما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج رأسه إليها وهي في المسجد، وهو في الغرفة فترجله، وتسرحه، وتغسله، وهو معتكف صلى الله عليه وسلم} وهي كانت حائضاً.

فكان صلى الله عليه وسلم يتكئ كما في مسند أحمد على باب غرفتها، ثم يخرج رأسه إليها فترجله، وهذا دليل على أن إخراج المعتكف بعض جسده لا يضر، وليس كإخراج الكل، فلو أن إنساناً حلف أنه لا يخرج من هذا المسجد فأخرج يده، أو رأسه، أو رجله فإنه لا يعد خارجاً.

ومثله المعتكف، لو أخرج يده أو رجله أو رأسه، فإن هذا لا يضر، وكذلك الحائض لو أدخلت يدها أو رجلها أو رأسها في المسجد لم يكن ذلك ممنوعاً ولا حرج عليها في ذلك؛ لأن هذا لا يعد دخولاً ولا خروجاً.

ومن فوائد هذا الحديث أن المعتكف لا حرج عليه من أن يتنظف، ويتطيب، ويغسل رأسه، ويسرحه، وينظفه، وهكذا فعل صلى الله عليه وسلم فإن هذا لا ينافي الاعتكاف.

ومن طريف ما وقع له صلى الله عليه وسلم وهو في معتكفه، {أنه خرج يوماً ليعتكف كما في صحيح البخاري فلما أن أراد أن يعتكف رأى صلى الله عليه وسلم الخيام منصوبةً في المسجد -أخبية منصوبة- هذا خباء حفصة، وهذا خباء عائشة، وهذا خباء زينب، فتعجب صلى الله عليه وسلم وترك الاعتكاف، وقال لأصحابه: آلبر أردْن بهذا؟! أي: هل تظنون أن ذلك من أجل البر، -لا- إنما فعلنه من أجل الغيرة وحرصاً على القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم} .

وذلك لأن عائشة استأذنت -أولاً- فأذن لها، ثم استأذنت حفصة فأذن لها، ثم فعلت زينب فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأى هذه الأخبية منصوبة، وفيها ما فيها من تضييق المسجد، وفيها ما فيها من المنافسة، كره ذلك صلى الله عليه وسلم وأمر بهذه الأخبية فقوضت ثم ترك الاعتكاف صلى الله عليه وسلم، فلم يعتكف تلك السنة، فلما كان في شوال اعتكف عشرة أيام، والأظهر والله أعلم أنه اعتكف عشرة أيام من بعد يوم العيد أي: تبدأ من الثاني من شوال.

هذا هو الأقرب، ويحتمل أنه اعتكف من يوم العيد، وإذا صح أنه اعتكف من يوم العيد فهذا دليل على أن الاعتكاف لا يشترط معه الصيام؛ لأن يوم العيد لا يصام؛ لكن لا يلزم أن يكون يوم العيد من ضمن أيام الاعتكاف.

ومن طرائف ما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في معتكفه ما رواه الشيخان عن صفية {أنها جاءت للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في معتكفه ليلةً فجلست تتحدث معه ساعةً، ثم قامت تنقلب إلى بيتها، فقام معها صلى الله عليه وسلم ليقلبها -أي: ربما يؤنسها، أو يزيل وحشتها في الطريق- حتى إذا وكان عند باب المسجد أي عند باب أم سلمة، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرعا.

فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم على رسلكما أو على هنتكما، أرفقا إنها صفية.

فقالا: سبحان الله! يا رسول الله، وكبر ذلك عليهما، وفي رواية أنهما قالا: أو فيك نظن يا رسول الله، أو فيك يشك يا رسول الله، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، -يبلغ من ابن آدم مبلغ الدم يعني في عروق الإنسان إلى القلب كالدم- إني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً} قال مسلم: شراً.

فمن شدة حرصه صلى الله عليه وسلم على صدق إيمان هذين الصحابيين الأنصاريين، وخشيته أن يزيغا بأن يلقي الشيطان في قلوبهما شراً، فيشكا فيكون ذلك كفراً، أو يشتغلا بدفع هذه الوسوسة رأى صلى الله عليه وسلم أنه لا حاجة لذلك أصلاً، وأنه لا مانع من كشف الموضوع، فقال لهما: إنها صفية بنت حيي، وهي زوج النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي هذا الحديث من الدروس الشيء الكثير؛ لكن لا أود أن أقف عندها؛ لأنها دروس خارج موضوع الاعتكاف، وخارج موضوع الصيام.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015