الوقفة السادسة عشرة: رمضان شهر الدعاء.
والله تعالى يجيب عباده في كل وقت، وخاصةً في رمضان، فقد سبق أن الله تعالى يجيب دعاء الصائم، وللصائم عند فطره دعوة لا ترد.
وأود أن أشير إلى خمسة أسباب -ذكرتها في درس بلوغ المرام- لإجابة الدعاء: السبب الأول: اختيار الزمان الفاضل، وذلك كأوقات السحر، وفي أدبار الصلوات المكتوبات، وما بين الآذان والإقامة، وفي آخر ساعة من الجمعة، وعند دخول الإمام إلى أن تقضى الصلاة، وعند الإفطار، فإن هذه من أوقات إجابة الدعاء.
السبب الثاني: اختيار المكان الفاضل، وذلك كالمساجد والأماكن الفاضلة، كـ مكة وغيرها.
السبب الثالث: صفة الداعي، كأن يكون الداعي مسافراً، فإن المسافر مستجاب الدعوة، وكونه أباً يدعو لولده، وكونه صائماً يدعو الله عز وجل، وكونه مقاتلاً فإن الدعاء عند التحام الصفين مستجاب، وكذلك كونه مظلوماً فإن دعوة المظلوم لا ترد، يرفعها الله فوق السحاب، ويقول: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين.
وكذلك كون الداعي مضطراً، ومعنى الاضطرار وحقيقته: أن يقطع العبد جميع الأسباب والوسائل إلا عن الله جل وعلا، فينقطع إلى الله تعالى بقلبه انقطاعاً تاماً، ويفوض الأمر إليه تفويضاً تاماً، وحينئذٍ يجيبه الله بلا شك ولا امتراء، يقول الله عز وجل: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] .
مر موسى عليه الصلاة والسلام برجل يدعو الله جل وعلا، فقال موسى: يا رب، والله لو كانت حاجة هذا الرجل عندي لقضيتها.
فقال الله عز وجل: يا موسى، أنا أرحم به منك، ولكنه يدعوني وقلبه عند غيري.
فأخبر موسى الرجل، فانقطع إلى الله بقلبه، فأجاب الله تعالى دعاءه.
فينبغي أن يكون الداعي على حال من الإخبات والانكسار والاضطرار، وألا يكون دعاؤه على سبيل التجربة، يقول عليه الصلاة والسلام: {ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من دعاه بقلب غافل لاهٍ} والحديث جاء بإسنادين يقوي أحدهما الآخر، فهو حديث حسن.
السبب الرابع: صفة الدعاء، مثل أن يكون الداعي متوضئاً متطهراً، مستقبل القبلة رافعاً يديه، يدعو بدعاءٍ ليس فيه إثم ولا قطيعة رحم، ويكرر الدعوة ثلاث مرات، ويدعو الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، فإن هذا من أسباب إجابة الدعاء، وأن يحرص على التزام الأدب النبوي في دعائه، وقد سبق أن تكلمت تفصيلاً عن ذلك في محاضرة عنوانها: آداب الدعاء، وكانت في مثل هذا الشهر من رمضان في العام الماضي.
وأود أن أشير في موضوع الدعاء، إلى الاعتداء الذي يقع من كثير من الناس في الدعاء خاصية في هذا الوقت: فمن الناس من يعتدي في إطالة الدعاء بما لا لزوم له، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو بجوامع الدعاء، فمن الاعتداء: أن يطيل الإنسان في الأدعية ويفصل بما لا لزوم له، فتجد بعض الناس يقول: اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وأجدادنا وجداتنا، وأخوالنا وخالاتنا، وأعمامنا وعماتنا، ثم يبدأ يعدد الأقارب، فإذا انتهى منهم انتقل إلى الجيران، فإذا انتهى منهم انتقل إلى الزملاء، وهكذا.
وهذا قد يستغرق عشر دقائق، وكان يستطيع أن يقول اللهم اغفر لنا ولإخواننا، ولمعارفنا ولأقاربنا ويكتفي.
فهذا التفصيل الذي لا لزوم له هو من الاعتداء في الدعاء.
ومن الاعتداء: أن يدعو الإنسان بإثم أو قطيعة رحم.
ومن الاعتداء: أن يدعو الإنسان بأسماء لله تعالى لم ترد في القرآن ولم ترد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، مثل قول بعضهم: يا غفران يا سلطان، فإن هذا ليس من أسماء الله جل وعلا.
ومن الاعتداء في الدعاء: المبالغة في رفع الصوت، حيث وجد في هذا العصر مكبرات الصوت، فتجد الداعي يدعو -أحياناً- في شرق البلد فيسمعه من في غربها، وهذا لا يليق، فالداعي يدعو إن كان لنفسه سراً قال تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} [مريم:2-3] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه} فالعبادة كلما كانت سراً كانت أقرب للصدق والخشوع والإجابة، فإن كنت تدعو لنفسك فادع سراً، أما إن كنت تدعو لغيرك -كأن تكون إماماً تدعو للناس- فادع وارفع صوتك بقدر ما يسمعه المصلون، أما أن تدعو ويسمعك من بشرق الأرض وغربها، فهذا ليس بجيد، وأخشى أن يكون هذا باباً إلى الرياء والإعجاب بالعمل فينبغي تجنبه والحذر منه.
السبب الخامس: زوال المانع، فإن الله لا يجيب الإنسان الذي يأكل الحرام، كما ورد في صحيح مسلم: {ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يده إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له!} فالذي يأكل الحرام من ربا، أو يأكل أموال اليتامى ظلماً، أو يأكل أموال الناس بالباطل، أو بالغش أو بالحلف الكاذب، أو ما أشبه ذلك فلا يستجاب له.
وكذلك من أعظم موانع استجابة الدعاء: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الله تعالى يقول -كما ورد في حديث مروي من طرق-: {يا أيها الناس! مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أجيب لكم، وتستنصروني فلا أنصركم، وتسألوني فلا أعطيكم} فإذا ترك الناس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يأمرون أنفسهم ولا أولادهم ولا جيرانهم، ولا يأمرون الناس عامةً في المجتمع، فإن الله تعالى يحرمهم من إجابة الدعاء.