ترك الجدل والتمشير للعمل

ومن الوسائل المهمة التشمير للعمل، مع التقليل من الكلام والجدل غير النافع في الأمور الجانبية.

فإن المقصود من كل ما يقال إنما هو العمل الذي هو ثمرة الإيمان ودليله، وأمَّا كثرة الكلام والجدل -الذي نشاهده الآن في واقع المسلمين- ليس منه كبير فائدة، فينبغي الاهتمام بالاستفادة من الأصول العامة والعمل على أساسها، والإعراض عن الإغراق في التنظير الذي لا جدوى من ورائه، فقد نتجادل طويلاً في مسألة، وبعد الجدل الطويل -مثلما يقول علماء الأصول- يأتي السؤال ما هي ثمرة الخلاف؟ والنتيجة بعد ما اختلفنا أو اتفقنا، وماذا يترتب على هذا؟ ما هي الثمرة؟ فإما ان لا تكون هناك ثمرة، أو نذهب نبحث عن جزئية يسيرة ونقول: هذه ثمرة من ثمرات الخلاف.

يترتب على هذا، أن تجد أن المسلمين عمروا مجالسهم بجدل عقيم، مثلاً افترض أن هناك منكراً من المنكرات، موجود في مكان كذا، اجتمعنا نحن عشرة من طلاب العلم، كيف نغير هذا المنكر؟ قال واحد: نغير هذا المنكر بالكتابة، وقال ثاني: نغيره بالمراسلة، قال ثالث: لا، نذهب بأنفسنا لنغير هذا المنكر، قال رابع: لا يصلح هذا ولا ذاك، ينبغي أن يذهب واحد ويبحث عن المسئول عن هذا المنكر ويدعوه، قال خامس: لا، نتصل، وقال عاشر!! وهكذا أصبح عندنا عشرة آراء، ثم بدأنا نتجادل جدلاً طويلاً حول أي هذه الآراء أصوب، بينما نحن في حمى الجدل والأخذ والعطاء، إذ بهذا المنكر قد ولد منكراً آخر بمكان ثان فصار عندنا خلاف جديد بأيهما نبدأ، هل بالمنكر القديم أم بالمنكر الجديد؟ قال واحد: لا، نبدأ بالمنكر القديم؛ لأنه أعمق وأخطر، والمنكر الجديد فرع عنه، وإذا زال الأصل زال الفرع، قال ثان: لا يا إخوان، المنكر القديم صعب إزالته الآن، لأنه أصبح مستقراً، لكن المنكر الجديد سهل إزالته؛ لأنه لم يستقر بعد، والناس عندهم استعداد لتقبل إزالة هذا المنكر.

وبينما نحن نختلف حول أيهما نبدأ إزالة المنكر الجديد أو القديم، إذا بمنكر ثالث يتولد، وهكذا تكسرت النصال على النصال، والقوم في حمى جدلهم العقيم حول الوسيلة الصحيحة، وحول التنظير، وحول الكلام، وحول القيل والقال.

فجاءهم رجل رشيد وقال لهم: يا قوم إن كنتم أهل جدل وكلام، فهذا شأن الفلاسفة من قبلكم طالما تجادلوا، وبيزنطة تسقط في أيدي الأعداء، كما يقول المثل.

كان الفلاسفة يتجادلون في بيزنطة وهي من المدن اليونانية، أيهما الأصل الدجاجة أم البيضة؟ فاختلفوا في هذا على قولين، في الوقت الذي كانت فيه خيول الأعداء على مشارف المدينة؛ حتى سقطت، وجاء الأعداء إلى هؤلاء الفلاسفة وعرفوهم عملياً أيهما كانت أول الدجاجة أم البيضة؟ فكانوا في أيدي أعدائهم كالدجاج، لماذا؟ لأنهم أشغلوا وقتهم في جدل عقيم، لا جدوى من ورائه، في الواقع هذا الجدل البيزنطي، ما أكثره في واقع المسلمين! دعونا يا إخواننا من الجدل بارك الله فيكم، انزلوا إلى الميدان، اشتغلوا، وكل واحد اقتنع بشيء يعمله، أنت الذي تنكر المنكر الأول، اذهب له، والذي يريد المنكر الثاني يذهب له، والذي سيغير بالكتاب يغير بالكتاب، والذي سيغير بالقول بغير بالقول، قد علم كل أناس مشربهم، كل إنسان له ما يناسبه وما يقتنع به، لكننا سنلتقي بالتأكيد على هدف واحد، وهو إزالة هذا المنكر، أو ذاك، وقل مثل هذا في أي قضية تعرض لنا؟! إذاً فكثير من القضايا النظرية التي نتكلم عنها أمور جدلية عقيمة، ربما لا يكون من ورائها طائل ولا من تحتها ثمرة، ولكن ضيَّعنا بها أوقاتنا، مثلاً نتفق على أمور عملية كثيرة، كل المسلمين متفقون على وجوب الدعوة إلى الله، فهل دعونا؟ كل المسلمين متفقون على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هل أمرنا ونهينا؟ كل المسلمين متفقون على وجوب النصيحة فهل نصحنا؟ كل المسلمين متفقون على وجوب الوحدة وجمع الكلمة بين أهل السنة والجماعة، فهل اتفقنا؟ أم أننا ظللنا نتجادل في أوضاع الدول السياسية مثلاً، نتجادل في أساليب الدعوة، نتجادل في خطط الأعداء وكيفية تحليلها، نتجادل في أمور كثيرة، لكن الشيء الوحيد الذي لم نُحس أن ننزل فيه، هو أن ننزل للميدان ونعمل، وندع الجدل جانباً، ونقول: الكلمة أصبحت الآن للعمل، كما قال أبو تمام: السيف أصدق إنباءً من الكُتبِ في حدِّه الحد بين الجِد والَلعِبِ العمل هو الذي يثبت واقعك، أعرف يا أخي كثيراً من الدعاة، كانوا يتجادلون جدلاً عميقاً وعقيماً أيضاً، حول كذا أحسن، أو كذا أحسن، لكن تجد رجلاً منهم مغامراً، ينزل للساحة، وينزل للميدان، فيعمل، فتجد الجميع يمشون وراءه ويصدقونه فيما قال، مع أنه ما ناقشهم، ولا جادلهم، لكنه شق الطريق فأيدوه وزال الجدل، وقطعت جهيزة قول كل خطيب، كما يقال.

فلا داعي أن نُغرق أنفسنا يا أحبتي في جدل عقيم، في أمور كثيرة، أمور نظرية، ليس لها تأثير في الواقع، دعونا ننزل للميدان، ونواجه المعركة بأساليب مناسبة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015