وفي هذا الباب يذكر أصحاب السير والتراجم قصة حصلت في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه, خلاصة هذه القصة: [[أن رجلاً اسمه أمية ابن الأشقر الكناني، وقد هاجر هذا الرجل إلى المدينة وسكنها فولد له ولد اسمه كلاب , وبعد أن كبر وترعرع في بيئة إسلامية ونشأ على محبة الإسلام ومحبة الخير, سأل طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وغيرهما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ما هي أفضل الأعمال التي أتقرب بها إلى الله عز وجل؟ فقالا له: أفضل الأعمال الجهاد في سبيل الله, فرغب كلاب بن أمية في الخروج للجهاد, وجاء إلى أمير المؤمنين عمر، وقال له: إني أريد أن أخرج في سبيل الله, فمنعه أبوه، وقال: كيف تخرج، وتتركنا شيخين كبيرين ليس لنا من يقوم بشئوننا غيرك, فما زال كلاب يراجع أباه حتى أرضاه وأقنعه، فسمح له بالخروج, فأذن له عمر، فخرج في جيش المسلمين الغازي إلى بلاد فارس, وأطال كلاب الغيبة عن أبيه، وبينما كان أبوه يوماً من الأيام جالساً تحت ظل شجرة إذا سمع حمامة تنوء، فتذكر ولده وحنَّ واشتاق إليه وبكى! فلما رأته زوجته بكت مثله، وأنشأ أمية يقول أبياتاً من الشعر يعبر بها عن حنينه واشتياقه إلى ابنه الذي خرج في الغزو وتركه وأمه شيخين كبيرين, يقول: لمن شيخان قد نشدا كلابا كتاب الله لو قبل الكتابا يشير إلى أنه وزوجته قد طلبا من ابنهما كلاب أن لا يخرج للغزو، وذكراه بكتاب الله الذي يأمره بالبر بهما, ثم يقول: إذا هتفت حمامة بطن وجٍ على بيضاتها ذكرا كلابا تركت أباك مرعشةً يداه وأمك ما تسيغ لها شرابا فإنك والتماس الأجر بعدي كباغي الماء يلتمس السرابا ثم ذهب أمية من غده إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه, وألقى أمامه قصيدة مؤثرة يشتاق فيها إلى ابنه، ويطلب من عمر أن يرده إليه؛ بل إنه زاد على ذلك فقال -وهو يعرف خوف عمر من الله تعالى ورقته- يقول: سأستعدي على الفاروق رباً له دفع الحجيج إلى بساط وأدعو الله مجتهداً عليه ببطن الأخشبين إلى بقاع يعني أنه سوف يستعدي الله تعالى الذي دفع الحجيج إلى عرفات؛ رغبة فيما عنده, ويدعو الله في مكة على عمر الذي أذن لابنه للخروج في الغزو، وجعله يترك أبويه؛ مع أن هذا الابن لم يخرج إلا بإذنهما؛ فلما سمع عمر رضي الله عنه هذه القصيدة تأثر! وسأله عن ابنه فقال: إنه قد خرج في غزو إلى فارس, فأرسل عمر بالبريد يطلب أن يرجع هذا الابن إلى المدينة, فلما رجع دعا عمر أباه, فقال له: ما أعظم عمل كان ابنك يحسن به إليك؟! فقال هذا الشيخ الكبير: إن ابني كان يحسن إليَّ بأعمال عظيمة لا أحصيها.
فسأل عمر الابن من دون أن يعلم الأب بأنه قد حضر من الغزو, فقال: ماذا كنت تصنع لأبيك؟ قال: إني كنت آتي بالناقة الحلوب، فأريحها ثم أغسل ضرعها حتى إذا برد حلبت له فسقيته؛ فطلب عمر من كلاب أن يحلب لأبيه كما كان يحلب بعادته، ثم سلّم هذا الحليب إلى أمية فلما أخذ الإناء، وفيه الحليب وشربه قال: والله إني لأجد في هذا رائحة كلاب؛ فبكى عمر، وبكى من حوله, ثم قال له: إن الله قد أقر عينك بابنك، فجاء إليه ابنه وقبله وعانقه وهو يبكي! وطلب منه أن يلازمه حتى الموت, وفعلاً بقي كلاب إلى جانب أبيه حتى مات]] .
وهذه القصة رواها عدد من أصحاب السير والأدب، منهم: البيهقي في المحاسن والمساوي, والصلاح الصفدي في نفح الأمنيان, وأبو الفرج الأصفهاني وغيرهم.
هذه القصة، تدل على ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة السابقة من أن الاشتغال ببر الوالدين، والإحسان إليهما، مقدم في حالة الاحتياج، حتى على الجهاد في سبيل الله عز وجل.