فمن الناس من يمزح بقصد التسلية، لأنه إذا كثر عليه الجد وثقل عليه، فإنه يمل ويكل، فيلوذ ويلجأ إلى شيء من الدعابة والمزاح، وهذا جاء في حديث حنظلة بن الربيع، ففي صحيح مسلم {أن حنظلة بن الربيع الأسيّدي رضي الله عنه قال لـ أبي بكر: نافق حنظلة، إنا نكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حال، فإذا خرجنا من عنده عافسنا الأولاد والأزواج والضيعات ونسينا كثيراً.
فقال أبو بكر رضي الله عنه: والله إني لكذلك، ثم ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: نافق حنظلة، وفي الأخير قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: لو أنكم تدومون على ما تكونون عندي؛ لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة} .
أي: ساعة تعبد وجد وإقبال، وساعة يجلس الإنسان فيها مع أهله ومع أولاده، ويستمتع بما أباح الله تعالى له من أمور الدنيا، ويدخل في ذلك مداعبة الأهل والأطفال والأصحاب والأحباب وغير ذلك.
وقد يكون من أهداف المزاح أحياناً: التعلم.
فإن التعلم يكون باللعب كما يكون بالجد، وأنت ترى أن الله -جل وعلا- فطر الصبيان الصغار على اللعب بأشياء مما يحتاجونها في كبرهم، فأنت تجد الطفلة الصغيرة تأتي إلى وسادتها، وتحزمها وتعدها بنتاً لها وتسميها، وتحملها وتضعها على حجرها، وتقبلها وتضمها وتغضب إذا أوذيت، وهذا يتناسب مع الجبلة التي خلقت من أجلها المرأة.
وكذلك الصبيان يجلسون فيصنعون البيوت ويصنعون الأشياء، ويتدربون على الأعمال التي سوف يعانونها في الكبر، فالمزاح واللعب -أحياناً- يكون للتعلم، كما يكون التعلم بالجد.
وقد كشف في وسائل التربية الحديثة: أن المعلم يحتاج إلى أن يُدخل على طلابه -أحياناً- نوعاً من الطرف ليبعد عنهم السآمة والملل، وهذا كان موجوداً عند علمائنا السابقين، فكان بعضهم يستخدم مع طلابه أساليب للتعليم، مثل أن يسألهم، أو يجعل لهم لغزاً يسمونه "المعاياة" يعاييهم فيه -أي: يعجزهم في الجواب عنه- إلى غير ذلك من الأشياء التي تطرد السآمة والملل، وتعين المتعلم على ما هو بصدده.
وقد يكون المزاح واللعب -أحياناً- للتخلص من الخوف أو القلق أو الغضب أو غيرها، فإن الإنسان إذا مزح أدخل على قلبه شيئاً من التسلية والسرور، وأزال ما يخاف منه أو خفف من ذلك، وهذا يقوله العلماء المعاصرون، لكن في هدى النبي عليه الصلاة والسلام ما يشبه هذا.
ففي الحديث المتفق عليه، حديث كعب بن مالك الطويل في قصة توبته، حين تخلف عن غزوة تبوك، يقول رضي الله عنه: {فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم تبسم تبسم المغضب} .
إذاً الابتسامة أحياناً تكون من الفرح والسرور والاستبشار، وأحياناً تكون من الغضب، فيتبسم الإنسان لأن من سجيته الكرم والخلق الحسن، حتى وهو مغضب، ويدل حاله على أن هذا التبسم ليس تبسم الرضا، وإنما هو تبسم الغضب.
وقد يكون المزاح -أحياناً- للتخلص من موقف صعب، فإن كثير من الناس كانوا -ولا زالوا- يتعرضون لمواقف صعبة، إما مع حاكم أو أمير أو قاض، أو زوج مع زوجته أو زوجة مع زوجها، أو تلميذ مع شيخه أو ما أشبه ذلك.
فيكون موقفاً صعباً، ليس له جواب إلا إذا كان هذا الإنسان عنده طرف وسرعة بديهة -كما يقولون- فيتخلص من صعوبة هذا الموقف؛ بأن يأتي بمزحة مناسبة؛ فيضحك منها الشيخ أو الأمير أو الشخص المعني، ثم يزول ما به من الغضب، ويعفو ويصفح عن الطرف الآخر، ومثل هذا كثير في كتب اللغة والأدب وغيرها.
وقد يكون المزاح على سبيل الملاطفة والملاينة، وتطييب خاطر من يقابلك؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي: {وتبسمك في وجه أخيك صدقة} فإنك إذا تبسمت له، تعرب له عن محبتك وسرورك بمقدمه، وأن قلبك لا يحمل له إلا الود والحب، فهذه بسمة يعبر فيها الأخ المسلم عن حبه لأخيه حين يلقاه، فعدها النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقات، كأنك أخذت مالاً وأعطيته إياه؛ لأنك تدخل السرور على قلبه بذلك.
ولهذا يقول جرير رضي الله عنه: {ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم} متفق عليه فكان يبتسم له صلى الله عليه وسلم لأنه كان يحبه، ويقول: عليه مسحة ملك.
وكان لا يثبت على الخيل، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم صدره ودعا له، وأمره أن يذهب إلى ذي الخلصة -وهو صنم كانت تعبده العرب في الجاهلية- فيهدمه، ففعل رضي الله عنه وأرضاه.