الرابع: وهو خطير جداً ومتفشٍ: أن بعض النكت بل كثيراً منها، يعمد أصحابها إلى التركيز على فئة معينة، أيَّ فئة -مثلاً- طبقة من طبقات المجتمع، القضاة، العلماء، المحدِّثين، الفقهاء، الوعاظ، وكم من نكتة يصطنعها الخبثاء من العلمانيين وأعداء الإسلام، ويلصقونها بالقضاة -مثلاً-!! قرأت مرة في جريدة تصدر في هذه البلاد، قصة مختلقة: أن قاضياً اسمه فلان بن فلان، جاءه إنسان يشهد في قضية، فقال: هاتوا واحداً مترجماً، ثم جاء الشاهد، أراد أن يُزكَّى الشاهد ثم يزكَّى المترجم، ثم مزكياً يزكي المزكي، ونسج قصة يقصد من ورائها الحط من قدر هذا القاضي، وأنه معقد، وأنه يطول الأمور، طبعاً ليس المقصود قاضياً بعينه، إنما هم يريدون أن يسقطوا ثقة الناس بالقضاة مثلاً.
وقد يقولون مثل هذا الكلام عن عالم، عن داعية، عن مصلح، فيلصقون مثل هذه النكت ويجعلونها تتداول بين الناس لأنها سهلة التداول، من أجل النيل من هؤلاء العلماء، أو القضاة، أو المحدثين، أو المفتين، أو الوعاظ، أو المرشدين، أو طلاب الدراسات الشرعية، أو ما أشبه ذلك.
وقل مثل ذلك أيضاً في أي طبقة أخرى من طبقات المجتمع، أحياناً قبيلة معينة، يلصق الناس بها مجموعة من النكت، أو بلد معين، أو منطقة معينة، وهذا أمر مشهور.
مثلاً: من الأشياء المتداولة في مصر، كثيراً ما يلقون بالنكت على أهل الصعيد، وذلك أنهم يتصورون أن أهل الصعيد يتميزون بشيء من السذاجة والغباء، فتجد أن نكتهم تدور حول: (هناك صعيدي قال كذا وفعل كذا) ونصف نكتهم في أهل الصعيد، نصف النكت تبدأ بكلمة هناك صعيدي.
وهذا الشيء موجود في كل بلد، عندنا في السعودية مثلاً هناك مناطق معينة -لا أريد أن أسمي- الناس يديرون النكت حولها.
ومرة من المرات جاءني واحد منهم على سبيل المزاح، هو رجل أريحي ليس منزعجاً من هذا لكنه يمزح، وقال لي: أنا من بلد كذا عرفني بنفسه، ثم قال أنا من بلد كذا، والناس يلصقون بنا تهماً كثيرة ونكتاً وطرائفاً ويزعمون أن فينا وفينا وفينا، فذكرت له بعض ما يقول فيهم الناس، فضحك، وقال: حتى أنت وصلت إليك هذه الأشياء، قلت: نعم وصل إلي منها شيء كثير، لكننا نمررها كما جاءت ولا نصدقها.
وهذه الأشياء لها أثر سيئ جداً أيها الإخوة- تُفَرِّق المؤمنين، وإن كانت مزاحاً فحتى الجاهلية فيها مزاح جاهلي؛ لأنك إذا سمعت مائة نكتة مثلاً عن أهل البلد الفلاني بأنهم جفاة، وقال لك واحد حصل لي معهم قصة كذا، وقصة كذا، وقصة كذا مع كثرة تداول هذه القصص وتناقلها، استقر في ذهن جمهور الناس إن ما يقال له أصل وأنه صحيح.
فإذا جاء الواحد إلى هذا البلد، بدأ ينتظر أين يجد الجفاء، فإذا وجد أي بادرة جفاء قال هذا مصداق ما سمعته، فأخذ الانطباع، وقرره وأكده.
وإذا سمعت عن بلد آخر أن أهله أغبياء، سذج بله، وفيهم وفيهم وفيهم، وقيل عنهم، بعد ذلك استقر هذا الأمر في ذهنك، فإذا ذهبت إلى هذا البلد بدأت تتلمس أين الغباء؟ فإذا صادفت أن وجدت رجلاً غبياً، وتصرف تصرفاً فيه رعونة وغفلة، قلت هذا مصداق ما يقوله الناس! فاستقر الأمر في نفسك، وأصبحت أنت تقول: نعم، الأمر له أصل، الشيء له أصل، أنا بنفسي رأيت كذا وكذا.
وإذا سمعت عن بلد ثالث أن أهله بخلاء، ذهبت إلى هذا البلد فأي بادرة بخل نسبتها وقلت هذا مصداق ما يقال، أو استضافك إنسان فلم يقم لك بحق الضيف، فسألت ممن؟ فقيل من بلد كذا، قلت: إذاً لا غرابة، هذا مصداق ما كنا نسمعه عن أهل هذا البلد.
وهكذا أصبحت هذه النكت مدعاة للتفرقة بين المسلمين، وكون أهل كل منطقة يتكلمون عن منطقة أخرى بخصلة ذميمة، وينسجون حولها القصص والأساطير، وعلى فرض وجود أصل يسير في هذا الأمر، فقد ضخمناه ونسجنا حوله أشياء كثيرة، وأقمنا هالة من القصص والحكايات والمرويات، حتى أصبح هذا الأمر عندنا أكبر من حجمه الطبيعي -على فرض أن له حجماً- أضعافاً مضاعفة، فينبغي أن نكون متفطنين لهذا، لأنه من كيد الشيطان الخفي الذي يتدسس به إلى القلوب ليفرقها.