التربية -أيها الإخوة- لها مفهوم أوسع وأعمق، إن التربية هي: الحياة بكل تفاصيلها، وبكل أشخاصها، وبكل مؤسساتها, والحياة تعني وجود الإنسان من يوم أن ظهر على ظهر الأرض, وإلى أن يغادرها, فهي تبدأ مع الإنسان بشهادة الميلاد، وتنتهي مع الإنسان بشهادة الدفن.
وإذا عرفنا أن التربية هي: المعنى الشامل للإنسان من يوم أن ولد إلى يوم أن يموت, أدركنا أن الحياة هذه أو التربية ليست أمرا مقصوراً على وجود الإنسان في منزله, أو بيته, ولا وجوده في مدرسته, أو حارته أو حيه أو مسجده, بل هي وجود الإنسان في الحياة كلها بكل مؤسساتها: من بيت، ومدرسة، ومسجد، وإعلام، وصحة، وغير ذلك, بل وجود الإنسان من خلال الأَنَاسِيِّ الذين يقابلونه في حياته, بكل تناقضهم، فهذا يحييه ويسلم عليه, وذاك يعيره ويشتمه, وهذا يحادثه, وهذا يبايعه أو يشاريه, وهذا يعلمه أو يتعلم منه, وهذا يوافقه, وهذا يخالفه, وهذا يمدحه, وهذا يذمه.
فالتربية تشمل الحياة كلها, وإذا أدركنا هذا أيضاً، أدركنا أنه لا يمكن أن يستقل جهاز من الأجهزة، أو مؤسسة من المؤسسات بتربية الإنسان, فإن الإنسان كائن مؤثر متأثر, ولا يمكن أن نستهين بشيء يواجه الإنسان, فالجو العام في المجتمع مثلاً هو عبارة عن تيار كتيار الماء أو تيار البحر يجتاح الإنسان -وأحياناً- يكون الإنسان مخالفاً للتيار, فيكون كأنه يسبح ضد الموج, يتقدم بقوته الضعيفة أمتاراً ثم يدفعه الموج إلى الوراء عشرات الأمتار.
ولهذا جاء الشرع بتحميل الإنسان مسئوليته الفردية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وجاء الشرع أيضاً بتحميل المجتمع مسئولية القيام بالحسبة, كأمة مؤمنة لا يميزها إلا الإيمان بالله تعالى، الذي عليه اجتمعت, ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, الذي به قوامها وبقاؤها {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] ويقول الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] الآية, ولذلك فإن الإنسان محتاج إلى المجتمع كله من حوله, ليتأثر بهم، وينتفع منهم، وينظر ما عندهم من خير فيقتبسه, أو خطأ فيجتنبه، أو نصيحة يعمل بها, ثم هو محتاج أيضاً إلى المؤسسات الموجودة في المجتمع، والتي يتربى من خلالها, فهو يتربى قاعداً في المسجد ينتظر الصلاة, ويتربى وهو في مدرسته, ويتربى وهو في سوقه, ويتربى وهو في بيته, حتى والإنسان في متجره هو يتربى.
يتربى على الأخلاق الإسلامية في المعاملة، والبيع والشراء، والأخذ والعطاء، وغير ذلك, وحين يفسد الزمان، وبمعنى أصح وبالاصطلاح الشرعي، ينحرف الناس، يؤمر الإنسان باعتزالهم, حتى يسلم من شرهم، أو يسلمهم من شره, كما في الحديث المتفق عليه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: أي الناس خير؟ قال: {مؤمن مجاهد في سبيل الله تعالى بماله ونفسه, قيل ثم أي؟ قال: مؤمن في شِعْب من الشعاب معتزل يعبد ربه، ويَدَعُ الناس من شره} .
فإنه إنسان غير قادر على التربية، لا يستفيد من الناس علماً وعملاً وأخلاقاً, ولا يستفيد الناس منه أيضاً, فهذا كان الأجدر في حقه أن يعتزل الناس ويدع الناس من شره, ليس من الناس إلا في خير.
فالتربية إذاً: عملية ضخمة وكبيرة, تبدأ مع الإنسان من يوم ولد, لا بل أقول تبدأ قبل الميلاد.
ومن الطرائف والنكت أن رجلاً جاء لأحد العلماء, فقال له: أنا قد تزوجت, وحَمَلَتْ زوجتي وهي في الشهر الرابع, وأريد أن تعطيني بعض التعليمات في أسلوب تربية هذا الطفل, فقال له: هذا الطفل قد فات عليك مادام في الشهر الرابع, لكن أعطيك تعليمات للطفل القادم, وهذه لا شك نكته, ولكنها لها دلالتها ولها معناها.
والمقصود أن التربية تبدأ حتى من يوم اختيار الزوجة, فإن الزوجة هي المحضن السليم المناسب الذي ينشأ معه الطفل, ويتربى في أحضانها, ويقتبس من أخلاقها, فهي تبدأ قبل أن يولد الإنسان وفى صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن قُضي بينهما ولد لم يضره الشيطان} .
فالشيطان يفر من ذكر الله تعالى, والتربية تبدأ مبكرة جداً, إنها تبدأ من هذا الأوان ولا تنتهي إلا بأن يموت الإنسان قال الله عز وجل: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] , أي: الموت, ثم هي ليست عملية مقصورة على جانب واحد من جوانب النفس الإنسانية, فهي تربية تتعلق بالخلق, وتتعلق بالعقيدة, وتتعلق بالعلم, وتتعلق بالعمل, وتتعلق بالجسم, وتتعلق بالعبادة.
وهي أيضاً ليست مسئولية جهة بعينها فحسب, فالبيت وحده لا يمكن أن يستقل بالتربية, والمسجد وحده لا يستقل بها, والمدرسة وحدها لا تستقل بها, والزملاء والأصدقاء والصالحون أيضاً, وإنما المجتمع كله بكل مؤسساته، وكل أفراده، وكل أجهزته هو مسئول عن التربية.