قد يقول قائل: إذاً أين الزهد وما معناه؟ وقد يختلف الأمر على الكثير، فيرون أن الزهد، أو الاشتغال بالدعوة، أو العمل في الجهاد، أو طلبَ العلم، أو حفظَ القرآن، لا يتلاءم مع الصفق في التجارة، والعمل في الأسواق، وهذا خطأٌ في الفهم.
فقد روى الإمام أحمد في مسنده، والبخاري في الأدب المفرد، والحاكم، وابن حبان، وغيرهم بسندٍ صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عمرو بن العاص أول ما أسلم، فقال له: {يا عمرو خذ عليك ثيابك وسلاحك، ثم ائتني، فقال عمرو: فأتيته صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ، فصعَّد فيَّ النظر، ثم طأطأه، فقال: إني أريد أن أبعثك على جيشٍ فيسلمك الله ويُغِنمكَ، أي: تسلم وتغنم، وأرغب لك من المال رغبةً صالحة، أو ورغب لك من المال رغبةً صالحة، وفي رواية: وزعب لك، خذ لك من المال أخذةً صالحة، فقال عمرو: يا رسول الله! ما أسلمت من أجل المال!! إنما أسلمت رغبةً في الإسلام، وحباً في أن أكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: نِعْمَ المال الصالح للمرء الصالح} والحديث كما أسلفت، قال الحاكم على شرط مسلم، وقال مرة على شرطهما، ووافقه الذهبي، وصححه ابن حبان وغيره.
وقد أثنى الله تعالى على ناسٍ في القرآن فقال: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:37] إذاً هم يتاجرون ويبيعون ويشترون؛ ولكن لا يلهيهم ذلك عن ذكر الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فكان الواحد منهم، إذا وضع الشيء في كفة، وأراد أن يضع في الكفة الأخرى ما يقابله، ثم سمع المؤذن، ترك الميزان وذهب إلى الصلاة!! لا يقول: أزن هذه السلعة، أو هذه البضاعة ثم أذهب، بل يترك ذلك ويصلي فأثنى الله عليهم بأنهم لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقامِ الصلاة وإيتاء الزكاة.
فهذا هو الضابط أن الإنسان لا يشتغل عن الدين بالدنيا، ولا تلهيه التجارة والبيع عن ذكر الله، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والدعوة وطلب العلم والجهاد؛ ولكن يعمل هذا وهذا، ويوظف ما آتاه الله في سبيل الله، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17] .
قال قتادة كما رواه البخاري في كتاب البيوع عند تلك الآية، قال: كان القوم يتبايعون، ويتجرون، ولكنهم إذا نابهم حقٌ من حقوق الله لم تلههم تجارةٌ، ولا بيع حتى يؤده إلى الله.
إن مرابطة العنصر المتدين في الأسواق، والتجارة، والبيع والشراء، وفي سائر المؤسسات المالية، في بلاد الإسلام، حمايةٌ من الغش، والتزوير، والكذب، واستغلال بساطة الناس وطيبتهم، ومن المتاجرة بالحرام، وفرض البضائع الفاسدة على المسلمين، فأنت تجد أحياناً أن الإنسان يبحث عن الثوب، الذي يلتزم بالمواصفات الشرعية، لزوجته أو لطفلته فلا يجد لماذا؟! لأن العنصر المتدين غائب، وأحياناً تجد أن الإنسان يبحث عن اللحم الحلال، الذي يطمئن إليه فلا يجد لماذا؟! لأن العنصر المتدين غائب.
وهكذا، وهذه لا تعد إلا أن تكون نماذج يسيرة.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو كما ذكرت أم سلمة: [[أنه كان يدعو بعد صلاة الفجر، ويقول: اللهم إني أسألك رزقاً طيباً، وعلماً نافعاً، وعملاً متقبلاً]] والحديث رواه أحمد والنسائي في عمل اليوم والليلة والطبراني وعبد الرزاق وغيرهم، وهو حديثٌ صحيح.