المعنى الثالث من معاني الصيام: الاستسلام لله تعالى.
وذلك بأن تشعر بأنك عبد فعلاً، والعبودية لله هي كمال الحرية، ولذلك يقول عياض رحمه الله: ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا فهو يعتبر أن من أعظم الشرف أنه مخاطبٌ بقول الله تعالى: يا عبادي.
ويقول الآخر: أطعت مطامعي فاستعبدتني ولو أني قنعت لكنت حرا إذاً: كمال الحرية في كمال العبودية لله جل وعلا، والصوم يربي العبد على العبودية، وانظر كيف، يقول لك الله عز وجل: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} [البقرة:187] فيكون في هذا أمر لك بالأكل، فتجد أن من العبادة أن تأكل، ولذلك يستحب للإنسان أن يأكل -مثلاً- عند السحور وعند الإفطار كما هو معروف، ويكره له الوصال؛ بحيث يواصل الإنسان يوماً أو يومين فلا يفطر بينهما، فتكون العبادة حينئذٍ بأن تأكل وتشبع شهوتك من الأكل والشرب، وفي وقتٍ آخر يأمرك الله عز وجل بضد ذلك فيقول: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] فتمسك من طلوع الفجر إلى الليل، عن الأكل والشرب وسائر المفطرات طاعة لله عز وجل، فتتربى حينئذٍ على العبودية الحقيقية لله، إذا قال لك: كل فإنك تأكل، وإذا قال لك: اشرب فإنك تشرب، وإذا قال لك: صم وأمسك؛ فإنك تصوم وتمسك.
ففي هذا يتربى العبد على أن القضية ليست مجرد أذواق وشهوات وأمزجة يتعاطاها؛ بل هي طاعة لله عز وجل، فإن أمرنا بالأكل أكلنا وإن أمرنا بالإمساك أمسكنا.
ولذلك تجد العبد -مثلاً- في صلاته أحياناً يقف، وأحياناً يركع، وأحياناً يسجد، وأحياناً يقعد، لأن هذا هو الأمر الذي أراده الله، وهذا هو التعليل.
وفي الإحرام مثلاً حين يحرم الإنسان ليس منهياً عن الأكل ولا عن الشرب، ولكنه منهيٌ عن الجماع ودواعيه، ومنهيٌ عن تغطية الرأس، وعن الطيب وعن تقليم الأظافر، وعن قص الشعر، وعن جميع ألوان الترفه، فيمتنع عن جميع هذه الأشياء ما دام محرماً؛ لأن الله تعالى هكذا أراد منا إرادة شرعية، لكن له أن يأكل، ولو امتنع المحرم عن الأكل والشرب لأنه محرم لكان مبتدعاً في ذلك.
فإذا انتهى إحرامه يقال له: مطلوبٌ منك الآن -وجوباً- أن تحلق أو تقصر رأسك، ومطلوبٌ منك أن تقلم أظفارك، وأن تتزين وتتطيب وتغتسل قال الله: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:29] .
فهذه تربيةً على العبودية الحقيقية لله جل وعلا، يأمرك بالشيء فتمتثل ويأمرك بنقيضه فتمتثل أيضاً، وليس من الضروري أن ندرك علة أو حكمةً لهذا الأمر أو لذاك النهي، فالعلة والحكمة تتلخص في أن الله تعالى أمر فأطعنا وامتثلنا، ونهى فانتهينا وامتثلنا، وهذا هو معنى العبودية الحقيقية.