تربية الصوم الإنسان على الحلم

الخلق الثالث: الحلم.

وهو: مقابلة الإساءة بالإحسان، والعفو عن الجاهل، والإعراض عنه، وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم هذا بقوله كما في الصحيح: {ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب} وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: {أن رجلاً قال: يا رسول الله أوصني ولا تكثر عليَّ أو قال: -كما في رواية أخرى-: يا رسول الله! مرني بأمر وأقلله علي؛ لكي لا أنساه.

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تغضب} والصوم سبب لتربية الإنسان على الحلم، والصفح عن الجاهل، والعفو عن المسيء؛ لأنه عبادة يتلبس بها الإنسان، والعابد قريب من الله تعالى بعيد عن نزغات الشيطان، بعيد عن إغراءات النفس الأمارة بالسوء، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه البخاري في كتاب الصوم باب "من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم" ورواه أبو داود والترمذي وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه} والله تعالى غني عن العالمين، فليس لله حاجة أن يدع هذا طعامه وشرابه، كما أنه ليس لله تعالى حاجة أن يدع غيره أيضاً ممن ترك قول الزور والعمل به؛ فالله تعالى غني عن هؤلاء وغني عن أولئك، وليس بحاجة إلى هؤلاء ولا إلى غيرهم، وكل البشر ليس تعالى في حاجة إلى أحد منهم.

ولكن المعنى -والله تعالى أعلم- أن الصوم إنما هو للعبد، لتربية العبد وتهذيبه، وحمله على كريم الطباع، وجميل الأخلاق، والنأي والبعد به عن قول الزور، وعن العمل بالزور، وعن شهادة الزور، وعن الظلم، وعن الفحش، وعن السب، وعن الشتم، وعن الجهل، فإذا لم يترك ذلك فإن الصوم يكون حينئذ لم يفعل فعله فيه.

ولماذا يصوم مثل هذا؟ علام يصوم إذا لم يصم لنفسه؟ إن لله تعالى غني عنه، ولهذا قال تعالى {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} [الزمر:7] فهو سبحانه غني عن هؤلاء الذين كفروا وأعرضوا عنه، وهم لا يضرونه شيئاً، كما أنه سبحانه غني أيضاً عن المؤمنين، ولهذا قال سبحانه: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:6] وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس:23] .

فكفر العبد هو على نفسه، وفسقه على نفسه، وارتكابه للزور هو على نفسه قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286] ولهذا أيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الذي رواه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أن الله تعالى قال: {يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئاً} .

فالله تعالى لا تضره المعصية، ولا تنفعه الطاعة، إنه سبحانه غني عن العالمين، وإنما الصائم يعمل لنفسه فيمسك عن الطعام والشراب من أجل أن يربيه ذلك على أن يدع قول الزور وأن يترك العمل به، فإذا لم يدع قول الزور ولم يدع العمل به فلماذا صام إذاً؟ هل صام لله تعالى ومن أجل الله؟ الله تعالى ليس له حاجة إلى أن يترك هذا الإنسان طعامه وشرابه.

مقابلة الإساءة بالإحسان: وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم الصائم إلى هذا الخلق الكريم فقال في الحديث المتفق عليه: {إذا كان أحدكم صائماً فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤٌ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم} يقابل الإساءة بالإحسان، فإذا عصى الله تعالى فيك فعليك أن تطيع الله تعالى فيه.

إنه لا يليق بالمسلم عامة ولا بالصائم خاصة أن يوزع ألفاظ السباب والشتائم على من حوله، فإن قصرت الزوجة في طهي الطعام أو كنس البيت أو كي الثياب أو العناية بالأطفال أو صناعة الشاي سبها، وسب أباها وأمها، وعيرها وهددها، وملأ البيت صراخاً وضجيجاً! إنه ليس من المروءة والكمال أن يكون الرجل في بيته امبراطوراً، إذا تكلم سكت الجميع، وإذا ظهر تجمد الكل، فلا ينطقون ولا يتكلمون، بل قد كان سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم حكيماً حليماً صبوراً رقيقاً حتى مع أهله، وربما رفعت عليه زوجه صوتها، وربما هجرته إحداهن إلى الليل.

فليس مناسباً إن قصر زوجك أن تغلظ له في القول، أو أفسد بعض الأطفال أثاث المنزل، أو مزقوا أوراقاً، أو نثروا طعاماً فربما شتمهم، وربما شتم نفسه معهم أيضاً، وفي صحيح مسلم: {سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يلعن بعيره أو ناقته، فقال عليه الصلاة والسلام: لا تصحبنا ناقة ملعونة} فتركها صاحبها، فكانت تمشى بمفردها بعيداً عن الناس؛ استجابة لأمر النبي عليه الصلاة والسلام.

وإن أطال مراجع على هذا الموظف في النقاش، أو تحدث معه، أو ألح عليه أغلظ له في القول، وربما افتعل هذا الإنسان مشكلة مع إمام المسجد أو مع الجار أو مع صديق أو مع زميل في العمل، وعذره في كل ذلك أنه صائم، ونفسه -كما يعبرون- واصلة.

والواقع أن الصوم يجب أن يكون جنة تمنع العبد مما يسخط الله، وحاجزاً يحول بينه وبين الغلط في القول أو في الفعل، لا، بل أقول لك: حتى أولئك الذين يبدأونك بالسب والشتم، أو يعيرونك، أو يسبونك، أو يغلظون لك في القول، أو لا يراعون شعورك، أو لا يحترمون مقامك، عليك أن تقابل ذلك كله بالإعراض، عليك أن تقابل ذلك كله بالصفح كما قال الله عز وجل: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] .

ليس القول كالعمل: ما أسهل هذه الكلمات! أن نقولها، وما أصعب أن تمسك نفسك عن الغيظ فلا تنفذه، وأن تحجزها عن الغضب فلا تستجيب له، وأن تردها عن الانتصار للنفس فلا تقبله، قال الله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} [فصلت:34-35] والصوم من الصبر، فتعلم الحلم في الصيام، وقال الله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83] .

وقال سبحانه: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء:53] .

فإن القول البذيء السيئ الجارح من أعظم أسباب فساد القلوب، وتغير النفوس، واختلاف الصفوف، وفي الحديث الذي رواه الترمذي وأبو داود وأحمد وابن ماجة وغيرهم -وهو حديث صحيح- عن أنس بن معاذ الجهني رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من كظم غيظاً وهو قادر على إنفاذه؛ دعاه الله تعالى يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين ما شاء} .

قال الأحنف بن قيس: ما عاداني أحد قط إلا أخذت فيه بإحدى ثلاث خصال: إن كان أعلى مني عرفت له قدره، وإن كان أقل مني حفظت قدري عنه، وإن كان مثلي تفضلت عليه.

وقد نظم بعض الشعراء هذا المعنى الكبير الذي ذكره سيد من سادات الحلماء وهو الأحنف بن قيس فقال: سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب وإن كثرت منه علي الجرائم فما الناس إلا واحد من ثلاثة شريف ومشروف ومثل مقاوم فأما الذي فوقى فأعرف قدره وأتبع فيه الحق والحق لازم وأما الذي دوني فأحلم دائماً أصون به عرضي وإلا فلائم وأما الذي مثلى فإن زل أو هفا تفضلت إن الفضل بالفخر حاكم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015