أولاً: يعتقد المسلم بأن اليهود على حق -مثلاً- أو النصارى على حق، أو الشيوعيين على حق، أو أي أمة، أو طائفة أخرى على حق، حينئذ يخرج من دائرة الإسلام، ويدخل في دائرة الكفر، فهذا اليقين العميق الراسخ بأن المسلم هو على الحق، وأن من عداه على الباطل، يجعله في موقف العزة التي لا تقبل الشك، ولا تقبل التردد، ولذلك تجد أن المؤمن من هذا المنطلق يشعر بالعزة في كل الظروف.
أ- قصة موسى مع فرعون: إنَّ موسى عليه الصلاة والسلام ومن معه من أتباعه من بني إسرائيل، لما كان فرعون يطاردهم ويحاربهم، وكانت معه الجيوش الجرارة، والقوى الهائلة، والمؤمنون المسلمون مع موسى لم يكونوا يملكون من القوة إلا النزر اليسير، مع ذلك يقول الله عز وجل له: {لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه:68] لا تخف يا موسى من قواهم، وإمكانياتهم، وبطشهم، ووسائلهم المادية، لأنه ما دام الله تعالى معك، فكل شيء ممكن، حتى الخوارق يمكن يجريها الله عز وجل لك، فمتى ما كنت متحققاً بهذا الشرط الإيماني {لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} [طه:68-69] وكما قال الشاعر: إذا جاء موسى وألقى العصا فقد بطل السحر والساحر فهم يكيدون، ويخططون، ويجمعون، ويتألبون، ويتنادون، ويتداعون، ويرسمون، ويدرسون، ويفعلون، كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق:14-17] .
ب- قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام: هذه القوة والعزة يشعر بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين يلقى في النار؛ لأن الإيمان في قلبه راسخ رسوخ الجبال الراسيات، فلا يبالي بهم ويقول: {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء:67] قوة، إمكانيات مذهلة، النار تتأجج، حتى يلقى إبراهيم في النار، أي إنسان عنده تردد، أو تلجلج في إيمانه، قد يخشى لأنه الآن يلقى في النار، يوضع في المنجنيق، ليقذف في النار، لم يبق شيء، وضعفاء الإيمان حينئذ قد يتساءلون لماذا لم تتدخل القدرة الإلهية؟! لكن ربك عز وجل حكيم عليم يجري قدره متى شاء، ويلقى إبراهيم في النار في تلك اللحظة، فيأتي قدر الله قال تعالى: {يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] فيكونون هم الأخسرين الأسفلين، ويكون إبراهيم هو القوي العزيز بإذن الله تعالى، قال الشاعر: خذوا إيمان إبراهيم تنبت لكم في النار جنات النعيم جـ- محمد صلى الله عليه وسلم: محمد عليه الصلاة والسلام يقوم ليعلن دعوته في قريش، يا صباحاه، يا صباحاه، فيجتمع إليه الناس فيقول: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، ومنذ ذلك الوقت أصبحت الدنيا كلها معسكرين، الأول فيه محمد صلى الله عليه وسلم، ليس معه إلا أناس لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة، والدنيا كلها في معسكر آخر، تحالف عالمي، الفرس والروم والهند، والسند، والصين، وكل الدنيا، بل حتى قريش والعرب التي بعث فيها النبي صلى الله عليه وسلم هي مع المعسكرات الغربية والشرقية ضد نبينا صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يدير الله عز وجل أمور الكون، وينقل نبيه صلى الله عليه وسلم من نصر إلى نصر، ومن عز إلى عز، ومن تمكين إلى تمكين، حتى لم يمت عليه الصلاة والسلام، حتى أنزل الله عز وجل قوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1-3] .
د- امرأة فرعون وماشطة ابنة فرعون: قد يقال هؤلاء الأنبياء، فنقول وأتباع الأنبياء أيضاً، هذه امرأة فرعون، امرأة في قصر الطاغية فرعون تعرض عن زينة فرعون، ودنياه، وجاهه، وماله، ومنصبه، وترفع رأسها إلى السماء، قال تعالى: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] وأعجب من ذلك ماشطة بنت فرعون، ولها قصة، رواها ابن عباس وغيره، وهي عجب من العجب، أن ماشطة بنت فرعون كانت تمشطها فسقط المشط من يدها فقالت: بسم الله، فرفعت البنت رأسها، وقالت: أبي، الله أبي، قالت: لا ربي وربك ورب أبيك الله رب العالمين، فقالت: أخبر والدي بهذا، قالت: أخبريه، فجاءت إلى أبيها وقالت: الماشطة تقول كذا وكذا، فدعاها فقالت: نعم، ربي وربك الله، امرأة تتحدى أكبر طاغية في التاريخ!! وما انتهى التحدي عند هذا الحد كان لها أطفال، فأحضر الطاغية الجبار قدراً نقره من نحاس وأوقد عليه حتى أصبح جمرة تتلهب محمرة، ثم أخذ ابنها من على كتفها ليلقيه في هذا القدر، فينحلس فيه كما تنحلس الحبة، وما هي إلا لحظة حتى يتجمع ويتمزق وينتهي، ويصبح فحمة سوداء، فتقول له بكل ثبات: لي إليك حاجة، قال: ما حاجتك؟ قالت: أن تجعلني وأولادي وعظام أولادي في قبر واحد، قال: ذلك لك علينا من الحق، ليس هناك مانع، ثم يأخذ الآخر، ويجره وقد أمسك بثوبها، فيلقي به -أيضاً- في القدر، أي صبر هذا؟! ثم يأخذ الثالث ليلقي به على أثره قال تعالى: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:10-14] وأدرك فرعون شؤم هذه الفعلة الشنعاء، وما ماثلها من الأفعال الشنيعة التي تجلى فيها طغيانه، فإذا الله عز وجل يأخذه أخذ عزيز مقتدر، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] .
هـ- قصة أصحاب الأخدود والغلام المؤمن: قصة أصحاب الأخدود والغلام المؤمن، وهي في الصحيح، الغلام يكون على كتف أمه، فلما ترددت بعض التردد أن تلقى في هذه النار، يقول: يا أماه اصبري، فإنك على الحق، فتصبر ويلقى بها وبولدها في هذه النار، وفي النهاية يكتب الله عز وجل لهم النصر، فكانوا منتصرين، وسر انتصارهم هو أنهم يموتون على الإسلام.
إنَّ النصر الدنيوي المادي -أيها الإخوة- قد يتحول إلى هزيمة، والمنتصر الغالب اليوم قد يهزم غداً، لكن هذا النصر الذي حققته ماشطة بنت فرعون، أو امرأة فرعون، أو حققه المؤمنون الذين ألقوا في الأخدود، بالله عليكم هل هذا النصر يمكن أن يتحول إلى هزيمة يوماً من الأيام؟! كلا والله، لقد أصبحوا معالم على مدى التاريخ، تقول للناس: إن العقائد الراسخة العميقة في النفوس والضمائر، لا يستطيع الحديد والنار أن يفلها بحال من الأحوال، هذا هو النصر، قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51-52] .
و قصة خبيب بن عدي: ومن هذه الأمة والأمثلة من هذه الأمة كثيرة: خبيب بن عدي رضي الله عنه حين أمسك به المشركون من قريش، وأسروه، ثم جاءوا به ليقتلوه ويصلبوه على جذع نخلة في مكة، تلفت فلم يجد حوله إلا شانئ معارض مبغض، وهو رجل وحيد أعزل، مكبل بالقيود ليضرب الآن بالسهام فما الذي فعل؟! هل ضعف؟ أبداً، استأذنهم أن يصلي ركعتين فصلى ركعتين، ومن ذلك سن صلاة ركعتين عند القتل، ثم قام، وتلفت إليهم، يقول وهو ينظر إليهم: لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا قبائلهم واستجمعوا كل مجمع وكلهم مبدي العدواة جاهد عليَّ لأني في وثاق بمضيع وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم وقربت من جذع طويل ممنع يتفرجون على هذا المشهد: إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي فذا العرش صبرني على ما يراد بي فقد بضعوا لحمي وقد ياس مطمعي وقد خيروني الكفر والموت دونه وقد هملت عيناي من غير مجزع ما بكى خوفاً من الموت، أبداً: وما بي حذار الموت إني لميت ولكن حذاري جَحْمُ نار ملفع ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع ولست بمبد للعدو تخشعاً ولا جزعاً إني إلى الله مرجعي ز- عزة المسلم على مدار التأريخ: من الذي أثبت صلابته على مدى التاريخ؟! هذا تاريخ الدنيا مكتوب كله، قولوا لنا أي أمة، أي شعب، أي ملة من الملل، تملك من البطولات، وتملك من الصبر، وتملك من التضحية، وتملك من الجهاد، مثلما يوجد في رصيد هذه الأمة؟! نتحدى الدنيا كلها من يتحملون عقائد، وملل، ونحل، وينتحلون مذاهب من العلمانية، والقومية، والحداثية، والشيوعية وغيرها، لكن هؤلاء ما أسرع ما يدخلون في جحورهم ويهربون، أما المؤمنون فهم أصبر الناس عند المصيبة، وأكثرهم تحملاً لما يلقون في ذات الله عز وجل، لأن العزة تنبع في قلوبهم، فلا حيلة في دفعها.
وكيف لا يكون المؤمنون أعزة، وهم يملكون هذا الإيمان الراسخ العميق بدينهم، في الوقت الذي تجد أصحاب الأديان، والملل، والنحل الأخرى، والمناهج الأرضية، يعيشون غيابة الفكر، في يوم من الأيام اكتسحت الناصرية الأمة العربية، وفي يوم آخر اكتسحت القومية، وصار المنادون بها كثراً، وصدرت الكتب والمجلات، وعقدت المؤتمرات والقيل والقال، لكنهم لما جاءوا ليتحدثوا عن القومية -مثلاً- عقدوا مؤتمراً لبحث القومية ما هي القومية، وفي النهاية عجزوا، فمن الطرائف والنكت أن واحداً منهم، قال لهم: القومية شيء جيد كثيراً، هذه هي القومية، إذن ليس عندهم فكر يجمعون الناس عليه، ليس عندهم تصور صحيح يلتئمون حوله، أحياناً تجمعهم الأهداف والمط